دهشةٌ تضخُّ الخيالَ في قلبِ الواقع

#دهشةٌ_تضخُّ_الخيالَ_في_قلبِ_الواقع
نسرين طه الفقيه

جعلتْني أسافرُ عبرَ ساعةِ الزمنِ أربعينَ عامًا لأجدَني عجوزًا كهلةً تكسّرتْ أسنانُ شبابِها بقَضْمِ الأيَّام شقاءً، سبعينيةٌ خطَّتْ السنونُ تجاعيدَ ملامحِها المرهقةِ، على أريكتِها الخاصةِ بمحاذاةِ نافذتِها المطلةِ على شجرةِ سُماقٍ معمِّرةٍ تتفقدُها بين الحينِ والآخرِ، بينَ أوراقِ مدوناتِها وذكرياتِها وبعضِ أحلامِها المقيَّدةِ بغبارِ التراكماتِ، وقليلٌ من ابتساماتِها التي يرسمُها حفيدُها كثيرِ التساؤلِ، الذي لطالما سمحَت له باختراقِ حدودِ مملكتِها الصغيرةِ بتفاصيلِها العميقةِ، نسائمٌ غزليَّةٌ تدغدغُ الروحَ تسبقُ سؤالَه في كل محاولةٍ لذيذةٍ منه لتقليبِ صفحاتِ الماضي.

أخبريني يا جدتي: كيف كانتْ حياتُكم؟ وأنتِ تقولينَ بأنكِ كنتِ تستمدينَ من السلفِ السابقِ علاماتِ الدهشةِ عمّا مضى! وتستمعين باستغرابٍ للكيفيةِ التي عَبَروا من خلالِها ظروفًا معيشيةً قاسية، وكنتِ تنظرينَ إليها بأنها لا تُطاق وهم يفتقدونها حقًا !

أجبتُهُ بالإيجابِ قيد تنهيدةٍ ممزوجةٍ بابتسامةِ ألم:
بحجمِ الشيبِ الذي اعترانا عنوةً، وبكمٍ لا بأسَ به من التأمُّلِ كنا نظنُّ أنَّنا في أسوأ حالٍ رغمَ يقينِنا وخوفِنا على الآتي البعيد!

كم من مقولةٍ عن السعادةِ زينَّتْ أحاديثَنا مفادُها أنَّ هذا الوقتَ ماضٍ لا محالةٍ بينما نحنُ لا نَحيَّاها، ربما كانَ الواقعُ هو السببُ في عدمِ الإتاحةِ! أمّا الحزنُ فكنّا ننتظرُه لنترجَّى مرورَه بعدَ القيامِ بواجبِ الضيافةِ على أملِ مضائِه.

كنّا في ضنكٍ ورخاءٍ معًا، قبولٍ وشكوى، كنا في تفاوتٍ لا يُطاق، ربما لَكُنَّا في حالٍ أفضلٍ لولا نوباتِ الحيرةِ: كيفَ وما الذي يجري..!؟

كانت الأمور مقلوبةً رأسًا على عقبٍ؛ فالسوادُ الأعظمُ يؤمنُ بالكذبِ، يرفضُ الشيءَ ويأتي بهِ، يسيرُ في الطريقِ الخطأ وينصحُ غيرَه بالبعدِ عنه، عايَشنا التيهَ بكافةِ أشكالِه تحتَ سيادةِ الأقوى استنادًا لقانونِ الغابِ!

حفيدي يا شغبَ الذاكرةِ، لا عليكَ ممّا مضى، ففي دربِ الحياةِ محطَّاتٌ نمرُّها لذيذٌ حلوُها علقمٌ مرُّها، ونحنُ عَبرنا بآبائكم وبكم نتحرى الأملَ بغدٍ أجمل.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى