مذكرات دبوس (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة

مذكرات دبوس
(قصة قصيرة)

الجمال ليس شرطا أساسيا للحب، بل على العكس.. الحب هو من يكسب المحبين جمالا لا تبزه ملكات جمال الكون..

فكرت في هذا وأنا ممدد على الطريق.. أتوتر تارة فتداخلني الأفكار السوداء خوفا من النهاية الشنيعة التي تنتظرني، وأسترخي تارة حين أذكر رؤوس الصبايا التي وجدت فيها مرتعي وأيام عزي الغابرة، من حقي أن أقلق وأنا مكون من معدن رقيق للغاية.. لوني فضي لكنه لا يعني أنني مكون من فضة، هناك أيضا بعض الحجارة الرخيصة التي تشبه الألماس وتسميها الصبايا “ستراس” تنتشر على طول جسدي، لا زلت مرنا رغم عمري الطويل.. أفتح وأغلق دون صرير أو طقطقة معدن والـ…..

ماذا؟.. لم تفهم؟.. ما ذنبي إذا كنت لا تعلم أوصاف دبوس الشعر حين تسمعها؟!.. أنا دبوس شعر من تلك الدبابيس التي ستجدها على رؤوس الفتيات والنساء، ستراها فقط إذا كن حاسرات الرؤوس بالطبع..

مقالات ذات صلة

عشت حياة طويلة ضمنها لي إهمال النساء المعهود.. لا بد من لحظة أسقط فيها عن رأس فتاة تثرثر على الهاتف فتمضي ولا تنتبه إلى سقوطي، لا بد من لحظة سهو تخلعني فيه سيدة ما عن رأسها لتصفف شعرها.. وهي مشغولة في حديث نميمة مع أخرى ثم تنسى وجودي تماما، عندها كنت أنتقل للحياة مع سيدتي الجديدة كأي عبد بيع في سوق نخاسة..

بعضهن ما شاء الله.. وغيرهن يا سبحان الله.. وأخريات لا حول ولا قوة إلا بالله.. وأخريات حسبي الله ونعم الوكيل !!

في أول حياتي إبان عرضي على واجهة زجاجية في محل لأدوات الزينة.. نشب صراع بين رغبتي وطموحي، طموحي في أن أهجر هذا الركن المضئ على الواجهة الزجاجية العادية إلى رأس فتاة غير عادية.. فتاة أرى العالم الحقيقي من خلال عينيها، ورغبتي في أن أكون لـ”غيداء”!!

غيداء البائعة الفقيرة التي جاء بها صاحب المحل لتبيع وتنظف وتصنع له القهوة حين يمر بمحله.. ثم تحتمل نظراته التي يتحسس بها جسدها الغض وهو يمتص القهوة المغلية على نار الصبر الذي يسكن صدر تلك الفتاة !!.. كانت جميلة كمبسم طفلة في الثانية، ولأنه كان موسرا على قدر من الثراء.. ظن أن الثروة تأتيه بما لا تستطيعه دماثة الأخلاق، لذا كان يؤمن أن غيداء من ضمن ممتلكات المحل يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، فقط هي ممتلكات صوتها عال تستطيع فضحه بين الناس إذا ما حاول أخذ “حقه” منها.. ولذلك ظلت أمامه كحق مؤجل أو مشروع معلق سيكمله يوما ما حين تفيض كأس الصبر في رأسه الفارغة..

حدث مرة أن شعرت باختلاج المشاعر الذي يشعر به بنو البشر.. يومها كنت وسط الواجهة أمام المارة دبوس شعر لامعا براقا، ويبدو أن بريقي لفت انتباه غيداء وهي تمسح الغبار عن زاوية قصية، تركت منفضة الغبار من يدها واقتربت مني مبهورة الأنفاس كأنها تراني للمرة الأولى، هل سمعت عن دبوس شعر يرتعش من نظرة فاتنة ما؟!.. هذا ما حدث معي وغيداء تمد يدها لتتحسسني بظاهر سبابتها بهدوء، ثم تضم إبهامها لتلتقطني في رشاقة تليق بالغيد مثيلاتها، وتضعني في راحة يدها الأخرى لتتأمل بريقي وانسياب جسدي الفضي الجميل بإعجاب!!.. كانت هناك مرآة للزبونات كي يجربن ما يشترين..

وقفت غيداء أمامها تنظر إلى انطباع وجهها في المرآة.. حتي خيل إلي أن حمرة الخجل علت وجنتيها لبرهة، رفعتني إلى رأسها.. وقبل أن أفهم كنت أزين خصل شعرها السوداء، كليلة لمعت فيها نجوم الثريا.. لتشير إلى “سهيل” الذي استقر بين شفتيها كرشفة ماء طال انتظارها، كانت مفاجأة أجمل من أن تتحقق.. إذ من يبالي بأحلام دبوس شعر؟.. لكن غيداء حققتها كأنها شعرت بي !!.. شعور غريب والشعر الأسود المنهمر كشلال يحيط بي من كل صوب، لأول مرة أعرف الهدف الذي جئت إلى الدنيا لأشغله، ولعمري هو الهدف الأجمل من وجهة نظري كدبوس!!

فجأة ازدحم المشهد وتبدلت عصافير الخيال بغربان الواقع.. صاحب المحل عاد من الخارج ليجد غيداء واقفة أمام المرآة تنظر إلى انطباع وجهها الممتقع خوفا، يدخل المشهد ببطء والأنفاس العطنة تتردد في منخريه كحيوان ظمئ، يغلق الباب خلفه ليحل ظلام سينمائي كالذي تراه في أفلام السبعينيات القذرة..

غيداء ترفع كفها لتخرس به صرخة كادت تنطلق.. تتراجع إلى الوراء.. تصطدم بأشياء تتحطم.. تصفر الدنيا في أذنيها لتمنعها من السمع.. تبكي.. ترجوه أن يتعقل.. لم أكن أفهم ما يدور أمامي لأني مجرد دبوس شعر لا يفهم معنى وجود كل هذا الشر في العالم، يمد الحقير يده إلى شعر فتاتي ليجرها منه فأسقط!!.. تسمع غيداء لسقوطي رنينا فتلتفت إلى حيث سقطت لتنظر إلي في حزن، إغرورق زوج من أحجاري ماسية البريق بدمع لم أعرفه قبلا.. غيداء تغتصب حرمة جسدها أمامي دون أن أملك من أمري وأمرها شيئا !!.. لماذا أيتها الدنيا؟!.. لماذا؟!!

ثمة صوت تردد على إيقاع صرخات غيداء المكتومة خجلا وذهولا وألما، صوت يقول لي: لا تسل.. في هذا العالم ما لا يحق لك معرفته..

أخيرا.. يلقي الحيوان جسده على أقرب مقعد إليه وهو يلهث، نهضت غيداء كعنقاء أسطورية قامت من رمادها.. لملمت أشلاءها عن الأرض اللزجة.. مسحت دموعها بكمها وتضم كتف الفستان الرخيص الممزق، وقبل أن ترحل.. إستدارت وهي تتهانف لترمقني بعين مبتلة مذهولة حيث سقطت ممددا بلا حراك.. لا حول لي أو قوة..

ترى هل تمنت ما تمنيت حقا؟!!.. أنا أيضا تمنيت لو أن لي رجلين لألحق بها ولا أعود!!

تم بيعي بعد يومين على يد فتاة لا تتوقف عن مضغ اللادن حلت محل غيداء.. أخيرا سأرى العالم الخارجي الذي اختصرته سابقا بعيني غيداء العسليتين!!.. سرت مع سيدتي الطيبة الجديدة التي أهدتني لابنتها التافهة، وهذه أهدتني لصديقة أتفه منها، سقطت عن رأس تلك لتجدني طفلة جميلة عشت على رأسها أياما كالحلم، رأتني أمها فجأة فرمتني من النافذة لأني سأجلب القمل لرأس ابنتها على حد زعمها، أنا لا أعرف ماهية القمل.. لكنه بالتأكيد شئ خطير ضحت لأجله الأم بابتسامة ابنتها خوفا منه، وحرمتني سعادة لم أجدها إلا على رؤوس الأطفال !!
وائل أحمد مكاحله
تذكرت هذا كله وأنا ممدد على الطريق بعد حياة حافلة عشتها على الرؤوس، دون أن يؤثر هذا في قيمتي كدبوس شعر.. أتوتر تارة فتداخلني الأفكار السوداء خوفا من النهاية الشنيعة التي تنتظرني، وأسترخي تارة حين أذكر رؤوس الصبايا التي وجدت فيها مرتعي وأيام عزي الغابرة، من حقي أن أقلق وأنا على الطريق مكون من معدن رقيق للغاية.. لوني فضي لكنه لا يعــ……

هنا رأيت غيداء!!.. سيارة فخمة تصطف إلى جانب الطريق المقابل أمام بناية سكنية فاخرة، يفتح الباب فتنزل هي ليسندها الشاب الذي يرافقها، يوشوشها بشئ ما فتضحك ضحكة ماجنة تردد صداها رغم ازدحام الطريق بالسيارات والمارة.. من الواضح أن “غيداء” أضحت “غادة” أخرى ممن ذكرهن “ألكسندر دوماس” في رائعته الحزينة “غادة الكاميليا”، غادة من أولئك اللواتي يثملن ويضحكن ويرمين براءتهن مع ملابسهن (…) المتسخة وأعقاب السجائر ملونة المبسم..

كنت ما زلت متحجر النظرات فاقدا لأي شعور يمكن أن يسيطر على دبوس شعر.. فيما تلك القدم الثقيلة تهوي فوقي ببطء لتحولني إلى قطعة من الخردة لا نفع منها..

لن أحزن أبدا.. فربما كان مصيري رائعا جدا أمام مصير غيداء التي كانت رقيقة مفعمة بالحياة يوما..

من يدري…!!

… تمّت …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى