كلمة في مؤتمر الشتات الفلسطيني الأول في برلين / ليث شبيلات

كلمة في مؤتمر الشتات الفلسطيني الأول في برلين
28 نوفمبر 2015

قبل أن أبدأ لا بد أن أعلن بأعلى صوتي : لله درك أيها الشعب العربي العظيم في فلسطين الذي كان وما زال دائماً متقدما على قياداته السياسية وحتى الجماهيرية والذي يستنبط بإبداع هائل آليات مقاومته فكلما ازداد تخلي إخوانه من عرب ومسلمين عنه كلما ازداد إصرارا وإبداعا في نضالاته. لقد قزم شباب وشابات ولدوا بعد الاحتلال ومعظمهم لم يخرج مرة واحدة خارح حدود فلسطين لقد قزموا رجولة الكثيرين منا من حولهم إن كان قد بقي لدى القاعدين منا شيء اسمه رجولة. وفي هذا الخصوص لا بد أن أخبركم عن شهادة زعيم عظيم وعن تواضعه أمام انجازات شعبنا العربي في فلسطين . فقد قال لي الرئيس الشهيد صدام حسين : أنا أعرف صحة القرار الذي اتخذه من عدمه من مراقبة تفاعل أهلنا في الأراضي المحتلة معه فان هم تظاهروا مؤيدين لقراري مشيت فيه إلى آخر المطاف ، وإن هم لم يتفاعلوا معه راجعت نفسي و عدت عن قراري.

كل الشكر للجنة التحضيرية على دعوتها لي للمشاركة في هذه الفعالية المباركة إن شاء الله. ولا يخفى على أحد أن أية فعالية تتمحور حول فلسطين إنما تشرف وترفع من شأن من يشارك فيها.
فلسطين التي يحدثكم عنها من كان واعيا في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت اللازمة التي يتمحور حولها أي نشاط في أي قطر عربي أو إسلامي. لا يجرؤ أحد وقتها وقبل أن يوصلنا الإنهيار إلى أوسلو ووادي عربة أن يتحرك في أية قضية داخلية أو خارجية قطرية أو عربية إلا وكانت فلسطين حاضرة في صلبها. فلا حقوق إنسان مفصولة عن فلسطين ولا مطالبة بالحريات والديموقراطية مفصولة عن فلسطين ولا مطالب تنموية مفصولة عن فلسطين إلى أن وقعت الكارثة الكبرى التي هي حتى أكبر من كارثة النكبة فنكبة 1948 إنما كانت كارثة مادية أصابت الجسم ولم تصل وقتها إلى الوعي للذات الوحدوية للأمة ولا للوعي الديني بقدسية فلسطين. بل تسبب الوعي الوحدوي وضرورته من أجل تحرير فلسطين في سقوط كثير من الأنظمة القطرية المسؤولة عن النكبة وكانت كل الانقلابات في سورية ثم مصر ثم العراق ثم ليبيا واليمن إلخ إنما تستمد شرعيتها من شعار تحرير فلسطين.
الكارثة الأكبر هي الكارثة الثقافية التي تم حقنها في الأجيال الجديدة . كارثة أن فلسطين للفلسطينيين و ان الأردن للأردنيين و أن لبنان للبنانيين وسورية للسوريين الخ. نعم ! الكارثة الكبرى أن وجود مثلي اليوم في هذا النشاط يسجل لي كإنجاز عند غالبية الحضور وأنني لا سمح الله إنما “أتفضل “بدعم القضية بعمل خارج مألوف كثير من شباب بلدي وبلاد العرب من حولي بينما لو غبت عن مثل هذا النشاط قبل ربع قرن لكنت مستحقا لإزدراء المجتمع ولأوقعت نفسي في دائرة الاتهام.
إذا فالشتات الأول الذي سنتكلم عنه اليوم قبل أن نصل إلى شتاتكم هو تشتت الأمة العربية التي هي قلب الأمة الإسلامية عن فلسطين بعد أن لم تعد القضية المركزية عند الكثيرين حتى من الصادقين الذين اختلطت عندهم أولويات وطنية محقة. وبالمناسبة سأفاجئ الكثيرين منكم وخاصة الشباب بأنني من جيل كان إذا استعمل وصف فلان وطني كان يقصد به أن فلانا وحدوي عربي لا أقل من ذلك . وأنا ما زلت معتادا على هذا اللفظ بهذا المعنى ولكن الكثيرين عندما يسمعونني أستعمله يعتقدون أنني أقصد أن فلانا وطني سوري أو وطني أردني أو وطني فلسطيني أو غير ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله فتصوروا معي الغربة التي يعيشها أمثالي وكم هو مؤلم لمن كانت ثقافته هكذا أن يعيش هذه الأيام التي انهارت فيها مواصفات الوطنية فأصبحت أقرب إلى القدح منها إلى المدح.
فبعد أن كان حضور أمثالي لمثل هذه النشاطات جزء رئيسيا لا يجتزؤ من القضية : قضيتنا كلنا. أصبح حضوري كأردني مساويا في قيمته للأسف لحضور أي متعاطف غربي مع القضية ذلك أن الانهيار الثقافي الذي أصاب بلاد العرب أوصلنا إلى بلدان عربية فيها متعاطفون ملتحمون بالقضية الفلسطينية ولكن فيها في العقود الأحيرة “وطنييون” بالمعنى الجديد للوطنية يعتبرون أن هذا الأمر لا يتقدم في الأولوية عندهم على قضايا داخلية وأن فلسطين للأسف هي للفلسطينين وأن أمثالي متفلسفون مهتمون بما يجب ألا يعنيهم. للأسف ان هذا قد بات واقعاً معاشاً يجرحنا يومياً وعلينا أن نواجهه بعلمية وأكاديمية لا بعاطفية ولا بغوغاء.
و بالإضافة قد سبق هذا الشتات الفكري العنصري الإقليمي تشتت ثقافي آخر لم يخرج القضية من مركزيتها ولكنه جعلها قضية متنازع على مركزيتها ثقافياً : هل هي قضية عربية أم إنها قضية إسلامية ؟ وخذ لك تجاذبات أوصلتنا إلى الحال الذي نحن فيه : اضمحلال الاهتمام بها عربيا وإسلامياً بل وأسوأ من ذلك انقسام فلسطيني فلسطيني بين توجه إسلامي ما زال يصارع عدم الرضوخ للتسوية ويساري رضخ في معظمه للأسف لفكر التسوية.
عندما نصل الآن للتحدث عن مؤتمركم حول الشتات فلا بد أن نبدأ بضرورة القضاء على الشتات الثقافي الفكري الأول الذي ذكرت فيما سبق. وأبدأ بتأكيد حضوري هنا كعضو وكجزء من القضية ولست ضيفاً متعاطفا. فحتى لو أردنا جدلا بحث الأمر من المنطق الناقص للوطنية فإن أي وطني أردني مثقف (وأعني بمثقف المطلع على البرنامج الصهيوني وعلى أدبيات المشروع الصهيوني ) يعلم أن ابتلاع الضفة الغربية كان الخطوة الثانية من المشروع الصهوني الذي يمثل فيه شعار “الأردن هو فلسطين” المرحلة الثالثة والذي تليه المرحلة الرابعة المتمثلة بشعار أن ” الاردن هوالضفة الشرقية لإسرائيل” أي أن شرق الأردن هو جزء لا يتجزأ من فلسطين . هكذا صرح علنا للأسف رئيس الكنيست الذي دعاه الملك حسين لإفطار رمضان عام 1995 عند ركوبه الهليكوبتر مجيباً سؤالاً حول شعوره إذ قال : أنا سعيد لأزور الضفة الشرقية لإسرائيل ومع هذا تم استقباله .
وصفي التل : هذا أمر كان يدركه جيدا أردنيون كثر وسيتفاجأ الكثيرون منكم عندما أذكر لكم اليوم ما يخالف ما تم تثقيف معظمكم عليه أن من أهم الأردنيين الذين كانوا يدركون ذلك هو وصفي التل الذي شوهت الروايات الكارهة جداً له من جهة ، والعاشقة عشقاً هائلاً له من جهة أخرى رؤيته ومشروعه إذ كان صاحب فكر ومشروع يجب أن يدرس بأكاديمية وبموضوعية علمية لأن في دراستهما اليوم صدمة للمتعصبين السطحيين من شرق أردنيين ومن فلسطينيين تصحيهم من التعصب الاقليمي الأعمى الذي حل بطرفي شعبنا الواحد. للأسف الطرفان يتخذانه بجهل مركب وبسطحية كرمز انعزالي أردني معاد لفلسطين وللفلسطينيين ، بينما يستطيع من عاصره وقرأ له وعرفه عن قرب مثلي أن يشهد بأن وصفي كان يعتبر أن المشروع الصهيوني تهديد مباشر للأردن بحيث قال مقولته الشهيرة لا يمكن أبدا أن يكون هنالك سلام بيننا وبينهم . أهمية كلامي أنني كنت قريباً من أجوائه أعرفه شخصياً فعندما كان والدي سفيراً في ألمانيا عام 1995 طلب من رئيس الوزراء أن يبعث معه كمساعد وصفي التل . وفي بون القرية الصغيرة وقتها المملؤة بأوقات الفراغ كان شيقا أن استمع وأنا ابن الرابعة عشرة إلى حوارات الرجلين. كان ذلك قبل أن يصبح والدي سفيراً في ألمانيا مرة ثانية عام 1968 وقبل أن يحيله رئيس الوزراء وصفي التل بطلب صريح من الملك على التقاعد بسب اختلاف الرؤى حول الفدائيين وحوادث أيلول. وقد ذكر لي أحد الذين يعرفون وزيراً عربياً للدفاع حضر اجتماعات الوزراء في القاهرة عندما حضر اجتماع وزراء الدفاع في القاهرة في اليوم الذي سبق اغتياله أن التل كان الوزير الوحيد الذي يحمل مشروعاً جدياً عميقاً فيه ابداع عسكري ونهضوي لتحرير فلسطين عرضه على زملائه وزراء الدفاع العرب. حتى إن ذلك الوزير الذي تعرف عليه فقط في ذلك الاجتماع قال بعد الاغتيال تمنيت لو أنني لم أعرفه من شدة اعجابه بالمنطق الذي سمعه منه قبل يوم . قد تعجبون من تركيزي على هذا الموضوع. إن حالة الاستقطاب الإقليمي التي يعيشها الأردن اليوم بين فلسطيني وأردني لا يسعفنا ويخرجنا منها إلا إعادة كتابة التاريخ الحديث بصدق يحتاج إلى جرأة أكاديمية علمية ترتفع فوق ظنون الناس و السائد من رأيهم العام توصلنا إلى صحة أو عدم صحة رمزية ألبسوها سيرته.فكما تعانون في الشتات من الاسلاموفوبيا فان أهلنا في الأردن وفلسطين يعانون من الوصفي فوبيا . الأردني الانعزالي يعشقه كرمز للنقاوة العرقية الأردنية رغم اختلاط الأنساب في وحدة اجتماعية عظيمة للأسف والفلسطيني ينفر من ذكره كأنه المسؤول الأوحد عن أحداث أيلول وكأن العمل الفدائي لم يدخل في انحرافات قادت بالضرورة للاصطدام والذي تكرر بعد ذلك في لبنان. فهو أهم رمز ثقافي خلافي يجب أن تمحص سيرته علميا وأن يدرس تسلسل الأحداث الذي أوصلنا إلى مصيبة أيلول 1970 التي شقت الساحة الأردنية شقاً يزداد توسعا مع الأيام إذا أردنا معالجة الأمر ، إذ لا يمكن أن يعالج بالقفز فوقه. إن الأمانة في ضرورة إعادة اللحمة الأردنية في الوطن الواحد والتي سأسأل عنها يوم القيامة والثقة التي أحظى بها عند أهلي وشعبي الواحد على ضفتي الأردن الحبيب وجرأتي المعروفة في مواجهة الطغيان تفرض علي أن أواجه أشرس طاغية : طغيان رأي عام تعد مواجهته أصعب من مواجهة أي حاكم ظالم .
بعد كل ما تقدم نصل إلى موضوع مؤتمرنا هذا. الشتات الفلسطيني في بلاد الشتات الغربية وما يجب أن يكون عليه التصرف من أصحاب الفضل من أمثالكم. ونحمد الله أنكم قد قطعتم المرحلة الأولى بأن أخرجتم هذا المؤتمر من الخلافات الفصائلية ولولا ذلك لما حضرت. فإذا كنا خارج فلسطين نؤمن بأن كل نضالاتنا القطرية والقومية والإسلامية يجب أن تنضبط ببوصلة القدس وفلسطين فمن باب أولى أن تتوجه بوصلة الفلسطينين إلى قطب مغناطيسي واحد هو فلسطين والقدس لا أن تتوجه إلى معادن الذاتية التي تغش فتحرف البوصلة بدراية منا أو دون دراية. وأبدأ بارسال التحية والإكبار لأهم مجموعة من شعبنا قاست حتى من ظلمنا ومن آرائنا السطحية في أحوالهم رغم أنهم قد قدموا أهم تضحية يقدمها غيرهم ألا وهي تضحية الثبات على أرض فلسطين وتحمل الاحتلال البغيض وممارساته الظالمة المهينة يومياً تمسكا بالأرض هؤلاء حاشا أن يكونوا”عرب إسرائيل ” كما يسميهم بعض سذج السياسة وإنما هم أرومة عروبتنا وسنديانتها الذين تتقزم نضالاتنا أمام صمودهم الاسطوري وهم جذور شجرة المقاومة النامية التي ستعيد الأرض في قادم الأيام فتحية لهم وألف شكر.
يا أهل الشتات في هذا الؤتمر: تعالوا نتدارس أهم واجب عليكم . فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع ! وهل هنالك مفسدة أكبر من تنازعكم الذي يذهب بريحكم. في جميع أموركم وحلكم وترحالكم وقبل أن تأخذوا أية قرارات قد تفرقكم وتصبح موضع نزاعات قضية فلسطين في غنى عنها فليسأل كل واحد منكم نفسه هل القرار الذي سأتخذه يصب في صالح وحدة النضال من أجل القضية أم أنه سيزيد من تمزقها. وقدموا لقيادة نشاطاتكم الموحدة تلك الشخصيات الجامعة التي لن تعدموها فليس زعيم القوم من يحمل الحقدا فإذا كانت مصلحة فلسطين في سقوط أحدنا فأنا أولكم مناداة بشعار : فليسقط ليث كي تحيا فلسطين وكي يحيا الأردن وكي تحيا أمتنا. إنها لمسؤولية تاريخية سيحاسبكم بها أحفادكم بعد موتكم قبل أن يحاسبكم عليها ربكم فكونوا لهم نورا يستضاء ويسترشد به ولا تتركوا لهم أخبار شقاقاتكم واختلافاتكم حول قضية عدالتها أكبر بكثير منكم ومنا وحتى من كل شهيد ضحى من أجلها.
من الآن فصاعدا النشاطات من أجل فلسطين يجب أن تكون مثل باقة ورد واحدة لكنها متعددة الألوان . إن عدوا مغتصباً عنده مئات بل آلاف من الجمعيات والمؤسسات المختلفة في شتاته ينجح في جعل أصواتها المختلفة متجانسة يساهم طبلها مع مزمارها مع كمانها بانتاج معزوفة صهيونية ذات هدف واحد: اظهار حقيقة وحشيته ولصوصيته واغتصابه الفاشي لأرض ليست له بمظهر رسالة إنسانية كاذبة تتعرض لعدوان الضحية لا يمكننا الانتصار عليه إلا بتنظيم خلافاتنا في الداخل وكذلك في الشتات خلافات تحتاج إلى مايسترو في إدارتها بحيث تعزف في جوقة واحدة لصالح قضية واحدة. فتنتقل من نشاز مزعج ينفض الناس من حوله إلى سيمفونية تسمو وتشنف الآذان بعدالتها . إن موسيقى الصهاينة الكاذبة يستمع لها العالم لتجانسها رغم غيها وسفالتها وكذبها بينما موسيقى قضيتنا تزعج مستمعي العالم فينفضون من حولنا. بالله عليكم انظروا إلى حالكم في الشتات هل محصلة منتوج حراككم ونشاطاتكم لنصرة فلسطين إيجابية ؟ أم إن سلبية هنا تسلب نتائج ما تحقق من إيجابية هناك ؟ حتى بات وضعنا مملا لدى الرأي العام العالمي.
ألا يستحق المنتوج النضالي الأعظم المتمثل بانتفاضة أبنائنا الذين بتضحياتهم الاسطورية لا يدافعون منفردين عن الحق الفلسطيني وحسب وإنما يدافعون عنا في الأردن و عن سورية ومصر والعراق والحجاز والعالم العربي والإسلامي من تمدد المشروع الصهيوني ألا يستحق هذا الانتاج النضالي الضخم المنبثق من شعب مل اختلاف قياداته وفصائله وجمعيات شتاته أن نرفده بتواضعنا لبعضنا البعض وبالتفافنا حول نقطة جوهرية واحدة لا يمكن الخلاف حولها وهي حقيقة عدم إمكانية تصالح أحدنا مع المشروع الصهيوني الذي لم يتخل عنه أي يهودي بعد. وحقيقة أن أي تصالح استسلامي سيفتح الباب أمام المرحلة التالية من المشروع الصهيوني المتوسع باستمرار. إن أعداءنا هم أصحاب الشعار ” وجدت إسرائيل لتبقى ولتتوسع “.
بارك الله في جهدكم اليوم مجتمعين من كل رياض الفكر المناضل الفلسطيني لتبعثوا الحياة في شرايين وحدة القضية تلك الوحدة التي لا تخصكم وحدكم يا أبناء الأرض المحتلة ويا أبناء الشتات بل وتخص كل عربي ومسلم من حولكم .
والسلام

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى