في بساط العبودية ” 4 ” / عبد اللطيف العسلي

في بساط العبودية ” 4 ”
المرتبة الثانية (2-5)

المرتبة الثانية وهي :
المنتفع به ، وهي كل ما خلق الله من المنافع التي لها علاقة بالانسان .
فيجب الإقرار اضطرارا من كل مخلوق متمكن مما أحاط به علما من الوقع الخارجي ، بإعتبار أن الإنسان هو الوحيد من من بين مكونات الأرض الذي يفهم نفسه ، ويفهم الواقع الخارج عنه وما خلق الله له من المنافع ، ويفهم العلاقة بينه وبين غيره من المكونات وهي كذلك تقوم على العقل وعلى مشاهدة كتاب الكائنات ، من خلال دراسة طبيعتها والتأمل في بنائها الدقيق ، وارتباط بعضها ببعض ، واكتشاف قوانينها الطبيعية وهي متاحة للجميع .
وإليها أشار قوله تعالى :
((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)) . البقرة .
وكذلك أشار في قوله سبحانه وتعالى:
أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ ۖ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ۚ كَذَٰلِكَ الْخُرُوجُ (11)) من سورة ” ق ”

وتشتمل هذه المرتبة على أمرين :
الأول :
علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وتحدد قواعد العدل هذه العلاقة ..
وأدنى شيء وجود القدر الكافي من العقلانية الراشدة للتعامل الراشد وبما يحفظ الكرامة الانسانية و الحقوق الطبيعية للانسان .
وإليها أشار القرآن الكريم بقوله تعالى:

فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)) الشورى .
ووجه الدلالة قوله سبحانه تعالى :
((…. ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ …))

مقالات ذات صلة

فالخالق يمكن أن نتعرف عليه من خلال خلقه ، ووجود الملاين من أنواع المخلوقات ، والوفرة فيما خلق الله من النعم واستمرارها وديموميتها ، والنظام المحكم والعناية الإلهية ، يبرهن أن الله أراد لهم أن ينعموا جميعا ولم يحابي أحدا على أحد ،
ولكن الإنسان – رغم أن الله وهبه عقلا – قد يعطل عقله ويتوحش ويطغي على أخيه الانسان وتتحول الحياة الى جحيم ، مالم يتعاملوا فيما بينهم بروح من المحبة والتسامح والعدل ، وهذا ما يدل عليه طبيعة خلق الانسان أنهم جميعا محتاجون الى العدل ، وعدم الظلم .
فالدين الحق هو الذي يقوم على العدل ، و أن الإقرار من الخلق في المرتبة الأولى والثانية الاقرار بها اضطرارا من كل إنسان متمكن ، ﻷن الاقرار بها يعني الإقرار بحق الحياة لكل الناس ، بأن الله هو المنعم على خلقه بالحياة فليس من حق أحد أن ينتزعها منهم مالم يكن هو قد انتزعها من غيره ..
ولسوء الحظ أن مشاكل العالم اليوم قائمة على عدم احترام قيم العدالة .
رغم اتفاق العقل البشري على ضرورة التزام قواعد العدل ، كما سنعرف من ديباجة اﻷمم المتحدة .
ولحسن الحظ أن القرآن الكريم قد أكد هذه الحقيقة في القرن السابع الميلادي، ولتوضيح
ذلك سأعرض عليك “عزيزي القاريء الكريم” مقارنة بين ما أشتملت عليه الآيات في سورة النحل ، وما اشتملت عليه ديباجة ميثاق الأمم المتحدة ، لتحكم بنفسك .
:أوﻻ : قيم العدالة التي أشتملت عليه الآيات قال تعالى :

(( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) ) النحل .

ثانيا :
ميثاق الأمم المتحدة الديباجـة :

نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا
أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف،
وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية،
وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي،
وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح.
وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا
أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار ،
وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي،
وأن نكفل بقبولنا مبادئ معيّنة ورسم الخطط اللازمة لها ألاّ تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة ،
وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعها،
قد قرّرنا أن نوحّد جهودنا لتحقيق هذه الأغراض
ولهذا فإن حكوماتنا المختلفة على يد مندوبيها المجتمعين في مدينة سان فرانسيسكو الذين قدّموا وثائق التفويض المستوفية للشرائط، قد ارتضت ميثاق الأمم المتحدة هذا، وأنشأت بمقتضاه هيئة دولية تُسمّى “الأمم المتحدة”.
فمن يقارن بين ما اشتملت عليه الآيات وما جاء في ديباجية الأمم المتحدة …
سيجد أنه ﻻ فرق في حفظ هذه الحقوق بين ما جاء في القرآن ، وبين جاء في ديباجة الامم المتحدة سوى مسألتين :
اﻷولى : تقدم ما جاء في القرآن على ما جاء في ديباجة الامم
فكم استغرقت البشرية من الوقت ” ما بين القرن السابع الميلادي و 1945 م ” حتى وصلت إلى هذه الديباجة ؟
وكم خسرت من أرواح وتضحيات جسيمة. ؟
ومع ذلك فهو من أعظم المكاسب للإنسانية كان ينبغي للمسلمين أن يكونوا من أولى الناس الداعين إليه، والمباركين له .
المسالة الثانية :
أن القرآن الكريم ألزم المؤمنين العمل بها ولو من جهة واحدة حين لم يلتزم الأخرون بها ، بينما ميثاق الأمم اشطرط موافقة الكل .

اﻷمر الثاني:
العلاقة مع المنتفع به، اي علاقة الإنسان مع بقية مكونات الكون من غير الإنسان ، والذي يتطلب إلتزام العمل الصالح وعدم الإفساد في الأرض .
وإلى ذلك أشار في قوله تعالى :
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41))) الروم .
وكذا في قوله تعالى :
(( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)) الأعراف .
وفي اﻵية لفتة كريمة لمن ينتهي عن الفساد ويمارس العمل الصالح بأن الله سيعطيه فبدلا من البحث على منافع عن طريق ممارسة الفساد ، فإن عليه بدﻻ من ذلك أن يسأل الله من فضله ؛ فإن رحمة الله الموجبة للعطاء قريبة جدا للمحسنين فوق ما يتصوره .
ومما ينبغي الإشارة إليه أن هذه المرتبة يطلق عليها بالمفهوم الإسلامي ” الإسلام ”
*** ***** **

يتابع المرتبة الثالثة
” الإيمان .”

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى