غيض من فيض

غيض من فيض

سناء جبر

مع كل المعتركات والمحطات التي نتوقف عندها رغبة أوعنوة في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا مترعين بحجم هائل من التراكمات والانزياحات الشعورية بنوعيها: المتجانسة والمتناقضة المتضادة، تتلبسنا تلك الصفنة المعتادة، ونراقب حوالينا عن كثب… ويتجلى العقل اللاواعي فينا، ويتمظهر لنوجه أنفسنا نحو المشهد بزواياه وأطره وخفاياه كاملة غير منقوصة ، وقد انقشعت تلك الغشاوة التي تحبط قدرتنا على استبصار الأمور بحرفية المصوّر الفوتوغرافي الذي يتبنه لأدق التفصيلات والرسوم، واضحة صريحة وضوح فلق الشمس تتكشف الصورة لتعلن وجود عناصر ما اعتدنا وجودها البتة، تضجّ بانفعالات تزدحم متلاحقة محمّلة برسوم وأخيلة تبعث فينا الشجن والحنين ، تثير فينا فيضانا هائلا من مشاعر الحب والألم والقوة والتحدي، تجتاح دواخلنا ويهدر في الصدر صوت الريح قادمة من بعيد ، تمحو ما تكدس من هموم وأشجان ، لكنها في ذات الوقت قادرة تماما أن تصفعك وترميك بذاكرتك أميالا إلى الوراء ، إلى الخلف، حيث تقبع أوراق مكدّسة ملأى بالحياة التي كانت عنوانا فضفاضا لمرحلة لا بل مراحل من عمر غضّ ملأ علينا دنيانا وملأنا بها صدورنا فبعثت فينا حياة ليست كالحياة، تختلف تمام الاختلاف عما نعيشه اليوم إن كنا فعلا نعيش ولم نكن نحسب عليهم زيادة عدد…

صفحات الذاكرة تلك آثرت السلامة فقررت أن تقرّ هناك قابعة في حنايا القلب قبل العقل، وتموضعت هناك في جدرانه واتخذت منه وطنا وسكنا ومسكنا، نحن نقتات على دفئها وحنوّها وصدق الشعور فيها ، خشيت عليها من غوادر الزمان فركنتها هناك في البعيد حيث اللاانتهاء ولا اختفاء، لكنه الوصول والدواء لكل داء.  خواطر وأحداث وأشخاص وأماكن وزوايا مجهولة لسواك معروفة كل المعرفة لك وحدك ، تتبدّى بكل تفصلة من تفصيلاتها أمام مرأى عينيك ، وفي كل مرة تزورك الذكرى ، تتكشف لك عن دقائق ومشاعر جديدة ما كانت لتبعث فيك بادئ الأمر، متجددة كل التجدد، هي زادك للمرحلة الحاضرة والمراحل الأخرى القادمة إن كنت ستوجد أصلا، نعيش بالذكرى الجميلة العبقة بشذى الجوري وعطر الياسمين، والورد المنثور وزهر القرنفل ينشر ينشر أريجه في كل ناحية عطاء دون مقابل،  مغلفة بصوت خطوات والدي أسمعها واحدة تلو أخرى وقد قدم آخر النهار فأركض إليه ، أغلي له فنجان قهوة ما أحب احتساءها إلا أن أكون أنا من صنعتها… وصوت أمي الرحيم، أسمعها  تنادي وهي تقلب أرغفة الخبز في الفرن فألبّي وتمتلئ رئتاي وخلاياي برائحة زكية صنعتها لنا بكل حب وأمومة… ذكريات وأشجان ملأى بضحكات، تعجّ بالصراخ والنداءات المتعالية هنا وهناك في جنبات الروح تود الانعتاق، مشبعة بالحنين القابع فينا لكنه ما يفتأ يتيقظ ويغزونا ويجتاحنا دون إرادة منا ، أيام وليالٍ تضج بكل ما فينا من حياة ونجاح وموت وفقدان ، وارتفاع وهبوط ، وتلاق وافتراق، يا الله ! هذه الذكرى هي الزوادة التي بها نعيش ، بها نشعل الزيت في المشكاة التي ستضيء لنا درب الطريق إلى الأمام، تغذ فينا الخطى وتبعث فينا العزائم والهمم والإرادة والتصميم؛ لنكابرالصعاب ونتحدى ما ظنناه مستحيلا فنجدد الثقة بأن لا مستحيل بين الكاف والنون. يا ترى! كيف يعيش من لا ذاكرة له ، من ليس له تاريخ ، من فقد الذاكرة لمرض أو حادث أو عرض ما ، سيعيش رغما عن أنف الصعاب ، يتولاه الله ويصنع ذاكرة تتسع مع الزمن ومرور الأيام ويبدأ من جديد وتكون انطلاقته يضرب بيد من حب وأمل وقلب نابض بالرضا وويصنع بصمة له حيث يوجد، ويقوى ويحفر له عنوانا يكون تأريخا وتسجيلا ونقطة انطلاق وارتكاز تدفعه للمضيّ قدما فيقف على أرض صلبة بقدم ثابتة، مستعد لأي طارئ مباغت، لا يحتاج سندًا؛ إذ هو السند لنفسه ولسواه، وسنده نابع من إيمانه وثقته بعزيمته التي لا تلين.

مقالات ذات صلة

لكن، تبا لتلك الأفكار التي تضج في عقلي وتسبب لي الأرق ، خلتها باتت نسيا منسيا مركونة في زاوية الذاكرة هناك، وإذا بها كل ليلة تجدد عهد الحب بيننا لتعلن حضورها وتجليها مجددا، وددت لو تعود الساعة عقاربها إلى الوراء لأمحوها إلى غير رجعة. لو كان هذا الخيار متاحا لاحترنا في عدد الأشخاص قبل الأحداث الذين كنا سنقدم على إلغائهم من حضورنا وحياتنا . لكن، بما أن (لو) حرف امتناع لامتناع ، فلا تقع فريسة الأمنيات فتبيت خائبا نادما على فعل ما اقترفته لكنك عوقبت عليه جورا وبهتانا ، لا تندم على شخص أساء التصرف ورسم لك صورة بشعة عن كل المثل والأخلاقيات المدّعاة عنده، هناك الكثير الذين يؤذونك ثم يتصفون وكأنك آذيتهم… ارضَ؛ حتى لو لكن الرضا سهلا، فكل ما حصل ويحصل وسيحصل لا يعدو كونه تجارب مضافة إلى زوادتك تتعلم منها وتكون عبرة لقادم الأيام ، وإياك أن تعكر عليك صفو حياتك ، ما يهم هو أن تتعظ وتمتلئ نفسك حبا بالله أن أبعدك عنهم بعد أن كانوا ابتلاء صعبا ودرسا قاسيا لا بد من خوضه.

أرى أننا في تعاملنا مع تلك الصفحات المغبرة من أرشيف الذاكرة ، المثقلة بهموم ومتاعب لا حصر لها ولا انتهاء ، العامرة بالحب تارة والمكتسية بالحزن تارة أحرى ، نسمع صوت الضحكات حينا ويهمس فينا أنين الألم حينا آخر، ونلمح الابتسامات مرة والعبرات على الوجنتين أخرى ، في هذه الحياة إنما نمر بمراحل تنتقل من الصدمة إلى الإنكار إلى الحزن إلى المحاولة إلى الإصرار. وهنا، بداية الطريق إلى مستقبل قوية دعائمه ، مدروسة خطاه، محفوفة بأكاليل الورد جنباته جنبا إلى جنب مع أشواك هنا وهناك قد تدمي أصابعك فتنبّه وتفكّر أين تضع قدمك، إذ عليك أن تكون إنسانًا أو تموت وأنت تحاول.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى