حوار الأديان أم حوار الإنسان / د . هاشم غرايبة

حوار الأديان أم حوار الإنسان

يعقد بين الحين والآخر مؤتمر أو ندوة في موضوع حوارات الأديان ، أو تحتدم الدعوات الإعلامية لإلتقاء أتباع العقائد المتعددة بهدف إزالة التوترات والصراعات ، وإيجاد القواسم الإنسانية المشتركة التي تتيح التعاون بدل التباغض … فلماذا أصبحت كل تلك المسائل الشغل الشاغل للعالم اليوم ؟؟
بداية لا بد من التوقف عند عبارة ” الأديان ” ، فهل هنالك أصلا عند البشر أديان متعددة ؟؟
المفهوم الأصلي للدين يعني بالنسبة للبشر أمرا إلهي المنشأ وليس معتقدا فلسفيا من وضع البشر ، بمعنى أن التدين هو قناعة بشرية بأمر من وضع الخالق ، ويشتمل على آداب وسلوكات محددة تسم ذلك الشخص بسمة محددة .
والأمر المبدئي هو أنه بما أن البشر ذوي طبيعة واحدة ، وهنالك إله واحد للكون ، ، فلا يمكن أن يضع أديان متعددة ، بل هو منهج واحد ، لكنه نزل بشكل شرائع على أقوام متعددين ، وعلى مدى حقب متباعدة ، قدرها الله بسابق علمه وحكمته ، متناسبة مع مراحل الإستعداد البشري لتقبل وفهم تلك الشرائع ، إلى أن استكملها نهائيا بالشكل الكامل بالرسالة الختامية التي تركها مدونة ثابتة غير قابلة للتعديل بالمطلق ” القرآن الكريم ” ، وجعلها باللغة العربية كونها أقدر لغة إنسانية على حمل المعاني البالغة الدلالة والعمق ، وأوكل إلى هؤلاء البشر ( العرب ) إيصال تلك المعاني والمفاهيم إلى باقي البشر ، أي إيصال الرسالة الى الناس جميعا .. وهذا تكليف مكلف مقابل التشريف الذي نالوه مسبقا .
ما يثبت أن تعدد الشرائع لا يعني تعدد الأديان ، أن جميع تلك الشرائع كان جوهرها واحداً : التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر ، سواء القديمة التي ضاع الكثير من تفصيلاتها ، فلم يبق إلا التعليمات الأخلاقية والمباديء السامية لكنها اختلطت مع مفاهيم وثنية أضاعت انتماءها الإلهي وأبقت على صلتها بمن حملها أو نشرها كما في العقائد الشرق آسيوية ، أو المتوسطة القدم مثل تلك التي نزلت على أنبياء ذكرهم القرآن الكريم ، مثل نوح وإبراهيم عليهم السلام ، ضاعت أيضا تفاصيل رسالاتهم وبقي القليل من أتباعهم مثل الصابئة والموحدين ، إلى أن جاءت الرسالات الأحدث وهي ما نزل على قومي موسى و عيسى عليهما السلام ، وذلك بدليل الآية الكريمة : ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ ” ( الشورى : 13 )،… وأخيرا كانت الرسالة الختامية التي أكد الخالق عزوجل إكتمال الدين نهائيا بها ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ” المائدة/3 .
إذن فالشرائع كانت تفصيلات من الدين الواحد لكل البشر ظلت تتنزل على مر العصور إلى أن اكتملت نهائيا برسالة آخر الأنبياء عليه الصلا ة والسلام ، ولم تبق من حاجة لمزيد ، فتوقف إرسال الرسل للبشر نهائيا .
إذن فعبارة ” حوار الأديان ” مغلوطة ، والأصح هو حوار أتباع الشرائع المختلفة ، أي حوار الناس وليست الشرائع ذاتها لأننا أثبتنا أن منشأها واحد وجوهر عقيدتها واحد .
نصل الآن الى المسألة الأهم : ما الذي دعا أتباع هذه الشرائع للإختلاف بينهم ، إلى درجة أن الصراع اصبح بينيا بينهم بدل أن يكون بينهم مجتمعين وبين ينكر الدين والخالق أصلا .
لا شك أن ذلك يعود أصلا إلى نجاح جهود اللادينيين بهذا الإتجاه ، لكن جذوره تعود إلى المصالح ، ففي كل مرحلة تاريخية نشأت طبقة انتهازية تمكنت من التحكم في مسار التدين لمصلحتها ، أي ما نسميهم في هذا العصر تجار الدين ، وهم في العادة متفوقون على العامة البسطاء بقدراتهم على استثمار أية حالة لصالح توسيع ثرائهم ونفوذهم ، منذ البدء كان الكهنة والعرافون الذين كانوا يحتكرون الوساطة مع الآلهة ، وتمكنوا بمهاراتهم المميزة من تحوير العقائد القديمة الى الوثنية لأن ذلك أقرب لهم نفعا ، ثم نجح أمثالهم أيضا فيما بعد حتى مع وجود الأنبياء من التأثير على البسطاء ، وتثبت ذلك قصة السامري والعجل الذهبي ، إذن كانت هذه الفئة ماهرة في التحوير والتزوير وبالتالي التأليب وتجييش العداء البيني لغايات منفعية طبقية ، وتثبت ذلك مرة أخرى قصة تأليب الكهنة اليهود ” بيلاطس ” لصلب المسيح عليه السلام ، وتواصل النهج ذاته في تحالف يهود المدينة مع كفار الجزيرة ضد المؤمنين في غزوة الأحزاب .
طوال التاريخ ظل جهد طبقة المنتفعين أولئك منصبا على تسعير الصراعات الدينية مثل الحروب الصليبية بدل التوافق والتقارب على المشترك وهو الدين ، لذلك تعاظم التباعد وتقلصت سبل التوافق .
الخلاصة : نستخلص من كل ما سبق أنه ليست هنالك أديان متعددة لتتحاور ، بل أن الدين واحد وهو بناء محكم متجانس ، لكن مصالح الناس هي المتناقضة ، لذلك فعبارة حوار الأديان خاطئة مغلوطة ، ليس لها من هدف إلا التشكيك في أن الدين من عند الله .
الدين لا يكون إلا من الله وهو الكمال التشريعي ، ، وأما الأفكار والفلسفات فهي من الإنسان … تخطيء وتصيب ، ما يرتقي منها هو ما تطابق مع الدين ، لكنها بالمجمل لا ترقى إلى مدلول الدين مهما ازيّنت وجُمِّلت .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى