بناء المجتمع الفاضل
منذ القدم ، والإنسان يبحث عن عوامل صلاح المجتمعات ، حدد أفلاطون شكل المدينة الفاضلة ، لكن لم يتفق الفلاسفة على نظام موحد للمجتمع الفاضل ، غير أنهم توافقوا على توصيفه بأنه ذلك الذي يقوده خيار الناس وينال فيه الفرد حقوقه كاملة من غير تمييز .
وضع الإغريق في القرن الخامس ق.م. أسسا لنظام الحكم سموه ” ديموقراطية ” يرتكز على أن الشعب يحكم نفسه ، لكن هذا المبدأ لم يتم الإلتزام به يوما رغم مرور خمسة وعشرين قرنا ، بل ظل مقتصرا على مبدأ رضوخ الأقلية لقرار الأغلبية .
لا أحد يجادل في أنه لا يمكن أن يصلح مجتمع إلا بصلاح من يحكمه ، لذلك ابتدع الإنسان أسلوب اختيار الحاكم دوريا وبالإنتخاب ، لأن في ذلك حافز للحاكم بأن يبذل جهده في تقديم النفع للناس الذين بيدهم قرار ابقائه أو استبداله ، كما أن وجود جهة طامحة لتبوء المنصب تدقق في عمل الحاكم ، وتبحث عن أخطائه وتقصيره ، تجعل الحاكم أكثر حرصا على أدائه .
في الممارسة ظهرت عيوب هذا النظام وأهمها : التلاعب بخيار الناخبين بالضغط من ذوي النفوذ أو بالإغراء المالي أو المنفعي ، إضافة الى أن آلية اتخاذ القرارات في الهيئات الحاكمة تتم بالتصويت بالأغلبية ، وبذلك من السهل تمرير قرار قد يضر بالأقلية ، كما أنه لا يراعى في التصويت عادة وجاهة الرأي أو حكمته بل صاحِبه وتأثيره على المصوِّت .
لكن هذا هو ما وصل إليه اجتهاد البشر حتى الآن في تطوير النظام المجتمعي .. فهل هنالك ما هو أمثل ؟
نعم .. إذا وجدنا الحافز للمحكوم أن يتحرى الحق وللحاكم أن يحتكم الى الضمير .. لكن هذا الأمر يحتاج الى أفراد مثاليين ، وهذا لا يمكن تحققه ، والرادع المتوفر هو سلطة القانون ، لكن يسهل التحايل عليها وتجنب سطوتها .. إذن ليس من وسيلة أفضل من أن يكون الحافز والرادع ذاتيان ، وهذا لا يتوفر إلا إذا اقتنع الإنسان أن هنالك قوة قادرة عليه تراقبه وتسجل عليه أفعاله .. فتكافئه على ما كان خيرا منها وتعاقبه على أفعاله الشريرة .. وهنا تكمن الحكمة من كون هذه القوة القاهرة غيبية لا يراها لكنه يدرك وجودها من إعجاز ودقة كل ما يراه .
الإنسان مفطور على حب الخير الذي تتفرع منه كل الأخلاق الحميدة ولكنه فُطر أيضا على الأنانية ، وذلك من أجل فطرة ( غريزة ) البقاء والحفاظ على الحياة وحفظ النوع ، لكن الأنانية تنبت منها كل الشرور كالكذب والكِبْر والطمع .
فالكذب يولد الفجور والبغي ، والكبر ينتج الخيلاء والإستعباد والاستبداد ، فيما يتكفل الطمع بإيقاع الظلم بالآخرين وأكل حقوقهم ونهب أرزاقهم .. ومن هنا تقع النزاعات وتتولد الحروب .
الدين جاء لإكمال هذه الحلقة الضعيفة من صفات الإنسان وكبح جماح الشرور ، وجعل لذلك الداء دواء ناجحا هو : الإيمان بالله واليوم الآخر … فالإيمان بالله وحده بيده مقاليد الأمور ، يحرر الإنسان من استعباد إنسان آخر له مهما كان منصبه ، وإيمانه باليوم الآخر الذي سيحاسب فيه على أعماله خيرها وشرها سيردعه ، فلن يفلت من العقاب آنذاك حتى لو أفلت من القانون الدنيوي .
إن من يقود سيارة قد يجازف بمخالفة قانون السير ، لكنه لن يفعل ذلك عندما يمرّ أمام ( كاميرا مراقبه ) ، فكيف إن عرف أن هنالك كاميرات سرية غير معروف مكانها لا تُعطِّل ولا تتعطل !!
قد يجادل من لا يؤمنون ، وقد يتذرع من ينكرون فضائل الدين ، بأن فلانا متدين ولكنه فاسد لم يردعه الدين عن شروره ، وقد تجد عددا هائلا من الأمثلة تعزز وجهة نظرهم ، لكن ذلك حجة على أولئك المُدّعين بالتدين وليس على الدين ، ولا ينتقص من قدر الصالحين فسادُ غيرهم ، لأن التدين ليس محجورا على أحد ، بل هو بمتناول البَرِّ والفاجر ، فهو قد يصلح الفاسد إن كان في نفسه بقية من خير .. لكنه لا يمكن أن يفسد الصالح ولو كان في نفسه بعض الشر ، لكن المؤكد أن حاكما يؤمن بالله واليوم الآخر ( حقيقة وليس ادعاء ) سيُصلح أكثر كثيرا ممن لا يعرف الله ولا يخاف حسابه .
منطقيا .. لا يمكن للقوانين الوضعية الخاضعة للتجريب ولمبلغ الفكر الإنساني أن ترتقي للتشريعات الإلهية ، بدليل أن تشريعات الإنسان القديمة التي نراها الآن متخلفة ، كان المتمسكون بها يرونها مطلقة الحكمة .. ، رآها الفراعنة أمثل من التشريعات التي جاء بها موسى ( ص ) ، وكذلك الرومان مع رسالة المسيح ( ص ) ، وكذلك يفعلون الآن مع رسالة محمد ( ص ) … جميع أولئك كانوا يعتقدون أنهم يمتلكون الطريقة المثلى … وما زال كثيرون في هذا العصر يظنون مثلهم أنهم امتلكوا المعرفة المطلقة .
- للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه أو على رقم التعريف : 644864265574607