سبعون عاما

#سبعون_عاما

د. #عبدالفتاح_طوقان

في ايلاف ، الجريدة التي تصدر في لندن ، كتبت خمسون عاما و نشرته في عام ٢٠٠٨، ولم يجف القلم لاجد السنوات انطلقت كالسهم بسرعة الصوت ووجدت نفسي و قد كتبت ستون عاما قبل ان اصل الستون بثلاث اشهر عام ٢٠١٧، و اليوم اجد نفسي اكتب السبعون قبل خمس سنوات من بلوغه لقناعتي ان الوقت يمر لحظيا ، وانا الذي كان حلمي بلوغ الخامسه والعشرين لاجد نفسي تخطيت الأربعون مع ثلاث ابناء ذكور وابنه ، و فجاءة اجدهم تخرجوا من الجامعات بعد ان انتقلنا الي كندا بسرعة البرق حيث لم اشعر معها بتحقيق امنيتي اني بلغت الخامسه والعشرين، فقد سرقت عمري السنين وبدآت الدوران لاقترب من كوكب السبعين، وقد مررت بحرب ١٩٦٧، ١٩٧٣، ١٩٨٢ و ١٩٩٠ و سقوط سيناء وبغداد وتدمير سوريه و لبنان في ثوان ، لاصحو وانا مستمتع بمسلسل ” انيس” لمحمد صبحي ، العتبة جزاز لفؤاد المهندس، افواه و ارانب و القمر لفاتن حمامة، الضاحك الباكي لنجيب الريحاني و قبلها قضية راي عام وخاص جدا وحرب أهلية وأحلام سعيدة للنجمة الشاملة المتالقة والمبدعه صديقتي الفنانه يسرا غير متناسيا الزعيم عادل امام و مدرسة المشاغبين .
ثم استيقظ علي اغنية يسرا ثلاث دقات وامضي وقتي مع خوليو واغانيه و جلويا جينر ” سوف انجو “.

حياة مسرعة مرت مثل شريط سينمائي لفيلم صغير ، اردت ان اكتب سبعون ” المقال الثالث العمري” مستوحيا فكره ثلاث دقات وثلاثية روايات نجيب محفوظ الاديب المصري الحائز علي جآئزة نوبل للآداب ، السكرية ، قصر الشوق، وبين القصرين .

الدقة الأولى و السكرية

“السكرية” و الدقة الأولى في حياتي ، فهي فترة امضيتها في كلية فيكتوريا من الحضانه ١٩٦١ و الي التخرج ١٩٧٥، وكانت مثل السكر حلاوة وعلما و ثقافة بمكتبتها التي امضيت بها اغلب اوقاتي في الوقت الذي كان البعض يلتهي بكره القدم وملاعبها الأربع بالمدرسة، سعدت بالدراسة فيها بكل ما كانت تحمله من فكر وثقافة، و اساتذه متميزون، منهم المرحوم أستاذ اللغة العربية علي الصياد الذي قسم الفصل الي سوق المربد وسوق عكاظ يتنافس التلاميذ بعد ان ينضم كل واحد الي سوق منهما في حصة اللغة العربية.

سوق المربد ، على وزن المنبر، وهي ضاحية من ضواحي البصرة في العراق كانت سوقا للدعوات السياسية وسوقا للادب ، مجتمع للعرب يتناشدون فيه الاشعار ، يبيعون و يشترون ، اما عكاظ فهو اهم أسواق العرب واشهرها في شمال شرقي مدينة الطائف السعودية يجتمع فيه العرب للبيع و الشراء ، و يستمعون الي الخطباء والشعراء والساسه و كان له دورا بارزا في الجاهلية و الإسلام و حتى عام ١٢٩ هجرية.

واتوقف عند الدقة الثانية “قصر الشوق” ، هذا القصر الفاخر ، احد القصور الملكية بمصر المتشابه بقصور الملكية الإيطالية وصممه مهندس القصور الإيطالي ارنستو فيروتشي ليكون نسخة علي غرار “قصر ماكينزي” في فلورنسا. بناه الخديوي عباس حلمي الثاني عام ١٨٩٢، بمدنية الإسكندرية علي شاطئ سميراميس بحدائق المنتزة والذي عاش به ملك مصر فاروق الذي أطاحت به ثوره خالده قادها الزعيم المصري جمال عبد الناصر و زملائه الاحرار . كيف كنت اذهب اليه مع الاهل و كان قصرا مفتوحا للعامة يطلعوا فيه على بذخ الملك و حياته اللاهية مثلما كان قصر رآس التين أيضا. و كيف كانت الملكة تستحم في بانيو ازرق اللون ، محفور في أرضية القصر وملىء بالحليب ووورد اللافندر و الياسمين المشتري من باريس و الشعب غير قادر علي تامين قوته اليومي !!!

الشوق عندي هو الي الإسكندرية العاصمة الثانية لمصر، واكبر مدنها و بها اكبر الموانيء البحرية ، هي عروس البحر الأبيض المتوسط الذي عاشت بها جاليات أوروبية تجاوز عددها النصف مليون . و كان ان بدأ العمل بها و اختيار موقعها علي يد الاسكندر الأكبر عام ٣٣٢ ميلادية الذي استوحي مكانها من معلمه الروحي هوميروس في ملحمة ” الادويسة”.

ثقافة ارتويت منها من فعاليات بينالي الإسكندرية لدول حوض البحر المتوسط والذي يعد الثاني عالميا بعد بينالي فينسيا و يستمر ٤٥ يوما و يضم ابداعات مختلف الفنون من رسم و نحت و فن تشكيلي ، ويشارك به النحاتين و الرسامين العالميين ، و لوحات سيف وانلي ، و ادهم وانلي، محمود سعيد، كامل مصطفي، محمد حسين هجرس، جمال السجيني ، حامد عويس من مصر الي جانب لوحات بيكاسو و شوجال و غيرهم من عباقرة الفنون التشكيلية من فرنسا و إيطاليا و اسبانيا و لبنان و كرواتيا و البانيا و كثير من دول البحر المتوسط . واذكر جيدا المرحوم “حسين صبحي” بقامته و اناقته و كان رئيس البلدية بمحافظة الإسكندرية وراعي الفن و دوما التقيه وانا شاب صغير في بدايه حياتي و زملائي بالمدرسة من “ال النحاس و الوكيل ” في منزل قريبتهم ” زينب هانم الوكيل ” زوجة مصطفى باشا النحاس في منطقة يطلق عليها “وابور المياه” .

ثقافة لم تتوقف عند البينالي بل امتدت الي التحفة المعمارية وهي مسرح اوبرا الإسكندرية، المستمده من مسرح اوديون في باريس ومن عناصر اوبرا فيينا و صممها المهندس الفرنسي جورج باك ثاني اقدم مسارح الاوبرا في مصر بعد الاوبرا الخديوية و التي تاسست علي الطراز اليوناني ، تلك ” الاوبرا” التي كانت مركزا ثقافيا يشع حضارة و رقي ، والذي كان يطلق عليها اسم “تياترو محمد علي” الي ان أصبحت تحمل اسم ” سيد درويش، “فنان الشعب” الذي عالج همومه وقدم رغم حياته القصيره التي تشابهت مع شاعر فلسطين إبراهيم طوقان ما الهب المشاعر الوطنية، و كان سيد درويش مجدد الموسيقي و باعث نهضتها في مصر و العالم العربي، وكانت المدرسة تمنح طلابها المتفوقين تذاكر حضور حفلات عايدة و بحيرة البجع واوركسترا القاهرة السيمفوني، و العازفين الايطاليين واذكر أيضا حفلات فرق الموسيقي و الغناء الارمينية ١٩٧٠، و اوبرا برلين ١٩٧٢بجانب اعمال شتراوس و ليهار و دونيزتي و اول غناء للفنان المصري علي الحجار و مسرحية محمود القلعاوي.

شوق لنادي سبورتنج الرياضي و مضمار الخيل، و لجنة المرح التي كان يتراسها المرحوم الدكتور فتوح أبو العزم رئيس اكاديمية السادات و المعهد القومي للإدارة العليا ، و بطولات التايكوندو و اول خطوات الحصول علي ميداليات ذهبية و تصفيق الجماهير و السفر لتمثيل النادي في بطولات الجمهورية التي حصلت عليها خمس سنوات متتالية ، و أيضا مجلة النادي التي كنت عضوا بهيئة تحريرها مع كبار أساتذة الصحافة و منهم اللواء شريف اباظه احد ابطال حرب ١٩٤٨ ، و البير توفيق رئيس تحرير الاخبار المصرية و نائب الكاتب المرموق موسى صبري ، و الأصدقاء و حفلات راس السنة و الكلوب هاوس و قاعة الطعام حيث كانت الوجبة ستون قرشا تضم لحم ستيك و بطاطا و سلطات و كريم كرامل و قهوة ، من افخر أنواع الطعام وقت ان كان الدولار بتسعين قرشا مصريا . و لا انسى الشوق الي فندق سيسل ، و محلات تريانون و ديليس للحلويات و كانت فرنسية و سويسرية ، و مناطق السمك بترو في محطة لوران و حلقة السمك بجانب نادي اليخت و النادي اليوناني حيث ذكريات جميله لا تنسى ، و امامهم قلعة قايتباي ، انه الشوق لشتاء ماطر يتطاير فيه رذاذ الكورنيش و شمس تشرق بعد المطر لتطرب من يعشق الإسكندرية و يشتاق لها .

وتآتي الدقة الثالثة مع ” بين القصرين ” ، قصر رغدان في الأردن و قصر المخابرات ، و الفترة التي امضيتها في عمان ، بعد ان انتقلت اليها من عروس البحر الي صحراء شرق المفرق التي تقع ضمن المحافظة الثانية عشرة و تعتبر ثاني اكبر محافظة من حيث المساحة البالغة ٢٦،٥٥٢ كيلومتر مربع أي ما يعادل ٢٩،٦٪ من مساحة المملكة و يعيش بها حينها ٥٤٩٩٤٨ نسمة و دخلت الكلية العسكرية و خدمة الوطن الاجبارية بمنتهي الحب و العشق لخدمة تراب وطن يقف على أطول خط مواجهه مع العدو الصهيوني الغاصب لفلسطين ، وبعدها خرجت الي المشاركة في الحياة السياسية ، انتخابات النقابة ، انتخابات مجلس الشعب او النواب كما يطلق عليها في الأردن. كنت سعيدا بممارسة ما كنت اعتقد حقي في حياة بها الكثير من العدل والنزاهة و نظافة اليد والاهتمام بما كان دوما يصرح به الملك الحسين رحمه الله ” الانسان اغلى ما نملك”. و لكن للأسف كان كل ذلك في واد و المتعارف عليه واد اخر.

مرحلة عمرية استمرت من ١٩٨٢ و حتى عام ٢٠٠٠ ، قدمت عديد من البرامج المتلفزة في بث مباشر، و كان لي شركة هندسية عمل بها ٦٣ مهندسا و اغلقتها وغادرت بعد ان شعرت ان المشاريع مثل السياسة ، يقررها شخصا من خلف الستار و بعد ان قدمت عرضا لمشروع مياه الديسي ب٣٥٠ مليون دينار و الثاني كان ٥٥٠ مليون ( وزير المياه و رئيس وزراء شركاء في مخالفة صريحة للقانون ) ، و الثالث ٧٠٠ مليون دينار ( شقيق زوجه احد الامراء ) ، و التقيت برئيس وزراء في مكتب عمه في جبل عمان ليقال لي ” تحتاج الي كفيل و هم من افهموني من هم المشاركين في العطاء” ، من خلال ذلك عرفت معنى ان يكون الانسان رقما لا مواطنا و غادرت ليقام المشروع بعدها بسنوات بمليارين من الدنانير و مطالبات بلغت ٤٠٠ مليون دينار.

في تلك المرحلة ، تعرفت فيها الي قصرين لهما تاثير كبير في كل صغيرة وكبيره.
احد القصور هو قصر رغدان العامر وهو القصر الذي به مكاتب الملك الاردني ، و مستشاريه و ٤٥٠٠ موظف لا نعرف ماذا يفعلون ، و قصر الجندويل مجازا، حيث يتم تحضير قوائم من يصبح نائبا ، و من يصبح وزيرا و من يمنع ومن يعتقل ومن يتولى الرئاسة ومن يتولى إدارة الصحف، هو المطبخ السياسي و الأمني وصاحب الصلاحية الاولي في التوصية واليد الطولى في البلاد .

مررت بين القصر الأول و الثاني ضيفا و زائرا و كانت هناك ذكريات جميله وصداقات اعتز بها ، لكن كانت هناك اياما أخرى محزنه، تعلمت وشهدت وعرفت كيف تدار البلد ، كيف هي طرق الوصول ، كيف هي و لماذا و متى و اين هي الدوائر الذي تقع ضمن السيطره واذكر لانه قيل لي ” عمان تم الاتفاق عليها ، و الناجحون معروفون ، ننصحك بالزرقاء و نضمن لك نجاحا باهرا حيث هناك أماكن لم يتم الاتفاق عليها و رفضت شاكرا و لكنه كان الما أصاب قلبي في وطني الذي اعشق، و شاهدت وسجلت اللحظات عسى اجد متسعا عند السبعين ان قدر لي الحياه ان اذكرها ، ولكني و الحمد لله لم اكن تابعا لاي من القصرين ، بل دوما مستقلا طموحا ساعيا لوطن افضل ، دفعت ثمنا غاليا باستقلالي و ارائي الصادره عن قراءّ و ثقافة و اطلاع لا تعتمد الهاتف مرجعيه !!!

اشتاق للقصرين ، لكن مابينهما سيف قاطع علي الرقاب لا يستهان به ، و غادرت الي دبي و من ثم كندا التي منحتني كلاهما اكثر مما توقعت و ارتقيت سلم النجاح ، إعلاميا و هندسيا ووجدت نفسي قابعا اكتب السبعون قبل حدوثها بخمس سنوات و الله اعلم بالاعمار!!

كل عام و انتم بالف خير.

aftoukan@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى