ما ذنب طفلة تموت? / د. ظاهر الزواهرة

ما ذنب طفلة تموت?
ريح تجرد كلّ زهراتي، وترمي بذور الورد في أرض فلاة، والعابرون إلى لغتي لا يقدّرون معنى أن تكون، أو أنّ الحروف بلسم لقلبي الموجوع من أسى الصحراء حين تعاند طفلة شمسٌ تحرق فراشة العيد الجديد، فمن يقوى على نظم قصيدة في الحزن، ويراد لها الحياة؟
يا زائرة الرجل الرصين: أتعرفين ما فعلت دموعك في جواه؟ أتعرفين كم سهم أصاب فؤاده وما لقاه؟ وكم تمرّد في السؤال حتى اغرورقت عيناه؟ وكأنها الدنيا عشرون ضدك منتقاه، ولك يوم وفيه الأماني مبتلاة، وكأنه في جزيرة للنفي ليست لسواه، وحق الصاعدات إلى منى كانت دموعك حرقة في الكبد وكأنها سم جزاه، وعرفتُ أن الليل في قسوة الظلمات لا ينصف شاعرا مثلي أتاه، وأن المنايا لا تطيش سهامها، والقلب قد تجرّع بالأسى سهما رماه، وما كنتُ أعرف أن أسئلتي تنزف دمًا أحرق فؤادي والعيون.
نعم، سألت وحقي أن أجد الجواب، نعم سألت وحقي أن أطرح ألف سؤال على طالب العلم وعليه أن يجيب ويستجيب، ولم يكن السؤال فسحة للخائضين في لون السؤال، والباحثين عن أهزوجة للضحك، والجدّ في زمني هزل، وأنا أقول ما كان في العلم خجل، والعلم لا يعرف خائفا يمزق الأوراق لحظة ويرمي بالقلم، مهما تضافرت الصعاب، واشتد الألم!
أتعرفين قسوة الدمع في قلبي وما يكون؟ أتظنين أن دمعة تخرج من عيني تراني وتمضي حيث أراها ولا ترى؟ والدمع في عين الحزين نضار أو لُـجين.
حاولتُ أن أصمت، وأمارس الصمت اللعين فما استطعت، وحاولت أن أخفي الكلام عن الكلام، فتناثرت مني الحروف، وتوجعت مثلي الجمل، حتى الحروف لم تعد ترحم الضعف الذي خانني ، وكنت مدادا للدواة، وأنا الذي رجوت ربي أن أكون لكل باك دواه.
هيا اذهبي، واحملي كل الدفاتر والورق، واقرأي عن سرّ طائر الأفق الحزين وستعرفين، نعم ، ستعرفين كم ألمٍ ألمَ بي وما رأيتُ في وجعي الخلاص حتى بكيتُ.
لو سألتِ الصاعدات منى لأجابوك من أنا، ولأخبروك من أكون، وكيف أخالف ما تأتي الظنون، ووجعي الممتد من وجعي قاني اللون حنون.
أنا أضعف من زهرة يربها الفرات بالندى، وتبكي فؤادي أبسط الأشياء في زمن الردى، وبيت قصيدة يؤلمني ويبكيني ويجعلني الحزين، وصورة طفلة تلحق أمها في حقل سنابل القمح خلف الحاصدين، سلبوا سنابل قمحنا، وتركوا القليل من القش، وتبكي الصغيرة وتترك لي الأنين، ويوقظني إلى وطني الحنين، رحل النهار، وما عاد القطار، ومضت السنين، أتبدلت صورتي؟ وصرت فظّا غليظ القلب في الصحراء بلا معين؟
لا تظلمي فكري، وما في القلب من أمل بغد يشرق على الدنيا مداه، ويُسمع العابرين إلى جسدي صداه، أنا لن أكون إلا مثلما تريدني أمي جبلا من الصبر على الحادثات، وجبلا يسدُّ أفواه الطغاة، لا تظلمي فالظلم يقتلني إذا ظننت أني ظالم في حق من يهوى القراءة والكتاب، الظلم يوجعني فأصبح تائها، وأنا الذي ما خفت يوما من طريق، وكل الصعاب تنثني إذا سرتُ الدروب، والحب الذي في القلب قتلوه في زمن الحروب، ما ذنب طفلة تموت، وهي تلهو على شرفة البيت بهدية طائرة جاءت مع الريح فوق الأرض إلى السماء؟ وما ذنب صغيرتي تموت ودميتها ، وتدفن في تراب الأرض وقد سقي الدماء؟ والموت يأخذنا ويستمر وبلا انتهاء، ويظلّ حافي القدمين أشعث يبحث في وسط السراب عن لوحة للعشق وماء.
لا توجعي قلبي فإني مثل الصغير الذي يبحث عن كرة ويبكي إذ لم يجدها في ساحة البيت، أو حديقته، ويظل يلح في طلب الكرات، هي الكرة التي ترافقني منذ الصغر جزء من حياتي ولم تزل، ولم أكبر وقد شيختني نوائب الدهر، وضياع بلاد العرب أوطاني، لكنني أحن إلى كرتي الصغيرة، وربما هو الهروب.
مازلتُ أكتب كلّ أوجاعي، وخواطري جمر إذا رجعت لها يوما، هي قطعة مني، ما أصعب الوجع الذي يوثق بالحروف! وما أصعب أن تكون بين الذين تحبهم أغرب الغرباء! آه يا أمي كم تمنيت الخروج إلى المحيط! كلّ الحداىق والسهول حتى الجبال أوجعت قدمي من سفر البكاء، مثل الذي طال الزمان به، ويبحث عن فؤاده ولم يجده، سرق الفؤاد وما كمل اللقاء، فلربما في المحيط إذا وصلناه نحيط بما نريد، ولربما تجد الذي يبكي إذا بكيت، ويعطيك إذا سقطت حبلا للنجاة، وما يخون يدرك قيمة الدنيا ويعرفها رحيل، ويبني الآمال فيها عاشقها الضعيف، أما علمت يا صاحبي أن الحياة جزء من رصيف، يخطو عليه العابرون طريقهم، وما يستقر عليه سوى الوصيف، وأن الربيع الذي نهوى زهره ولونه يعقبه الخريف!
آه يا أمي، ما نمت من خوفي على التي أبكت وأبكتني دما، أأنا الذي أبكي وأظلم ؟ أأنا سبب البكاء؟ وسبب الدموع التي تحرق الخد، وتوجع القلب؟ أقسمت يا أمي ما كنت ولن أكون سوى مصدر بهجة أو فرحة للباحثين مثلي عن علم يحقق ما نريد، ويدخل للقلب السرور.
في ليلتي ألف كابوس مخيف، وكأنني رأيت فيما رأيت دمعة تخرج من عيون لست صاحبها ، ولكنني تمنيت، إذ الدموع تخرج من عيون وتحرق قلبي الموجوع على طفل يموت غرقا مهاجرا في البحر يسأل الله النجاة.
*الزرقاء : 10/ 7 / 2019م، الأربعاء، الواحدة ليلا.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى