زكي بني رشيد الذي لم أزُرْهُ!! / عبدالرحمن الدويري

زكي بني رشيد الذي لم أزُرْهُ!!

لم أزر الشيخ زكي بني رشيد منذ اعتقاله، قبل عام ونصف تامَّين، وأعلنت نيّتي هذه في حينها، مشيرا إشارات سريعة وبصيغة رمزية، لدوافعي باتخاذ مثل هذا القرار، وها هو يخرج، وأنا على موقف هذا وقراري.
في الحقيقة تربطني بالشيخ علاقة حميمة، وله في قلبي كل التقدير والمحبة، وأنا في شديد الشوق لاعتناقه، وتهنئته بأجر مذخور يحتسبُه، وحرية ناجزةٍ، تليق بأمثاله من شرفاء هذا الوطن.
لكنني منذ يوم اعتقاله وحتى اليوم، لم أكن راضيا عن منهجية التعامل التنظيمي مع حالات الاعتقال التعسفي، في نظام، لطالما افتخر بخلو سجونه من معتقلي الرأي، واقترحت حينها دفعا لهذا الزعم الكاذب، أن نتربى جميعا على فقه جديد، ربما يكون غائبا عن أصحاب الدعوات، والمشاريع السامية، والمجتمعات العربية بعامة، ألا هو فقه الاعتقال.
وأعتقد -حتى هذه اللحظة- أننا لم نكن بمستوى الحدث المتعلق به، وبمن سبقه من إخوانه د. محمد سعيد بكر، وآخرين ما زالوا رهن الاعتقال، لا من حيث مستوى التفاعل، ولا من حيث مستوى الشعور بالقيمة المعنوية للحدت، حين يكون الأخ معتقلا بظلم في قضيته العادلة، فيذهب البعض يدعو الأخ للتساهل والمطاوعة، ويدور بهذا في صف الدعوة، تأسيسا لفقه السلامة بالاستسلام، هروبا بنفسه مستقبلا، من تجربة عالم ما وراء القضبان!!
هما مساران يحتاجان جهدا تربويا كبيرا:
1- الأول أن واقعة الاعتقال عبارة عن حالة اختبار شخصي، وتمحيص للمعتقل نفسه، فعليه أن يعي أن علاقته في مُصابه هذا حصرية مع الله، فلا عتب، ولا انتظار لمساندة مِن أحد مِن وراء القضبان، وإنما هي حالة افتداء، وبيع نفس لله، ودفاع عن إيمان ومعتقد ذاتي بينه وبين ربه، قبل أن يكون مُعبرا بهذا الاعتقال عن المجموع الذي ينتمي إليه، وعليه أن يكون انشغاله -وهو في سجنه- بتصحيح صفقة بيعه: نفسَه ومالَه لمولاه سبحانه، حتى تكون خالصة لوجهه الكريم، وتَرك ما وراء القضبان لله، سواء أكانت: دعوةً أو أسرةً أو مجتمعًا أو أهلاً وعشيرة، يتولاها جمعا ويُصرفها كيف يشاء، وهذا ما يُجسده مُرسي وإخوانه، حين قدموا كل هذا الثبات، وهم مقطوعون تماما عن المحيط الخارجي، لا يدرون ما الله صانع فيه، وأين ذهبت مَجاريه، وجعلوا همّهم الوحيد لُقياه على العهد، فلا نقض ولا انكسار.
2- وأما الأمر الآخر، فهو أن واقعة الاعتقال توجب على الآخرين أن يتهيؤوا لها، ويتعلموا علومها، ويقرؤوا فقهها، ويحسنوا استثمارها، لأنها جزء من عمل الدعوة، وتضحيات أعضائها، والمعتقل نائب عن إخوانه في تمثيل الحق، والدفاع عنه، فإن غاب وجب عليهم أن يستأنفوا المسير بعده بمنهجه، والاستثمار بتضحياته، وتقنين التعاطي مع هذه الحالات، وبرمجته، وعدم ترك ردود الفعل عليها تسير كيفما اتفق، فتبدو باهتة لا تعكس وجه الحركة، ولا تصقل مسيرة الدعوة، وحركة الدعاة بها. على سُنن الفاقهين، كبشر بن الحارث لما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط، مدّ بشر رجله وخاطب ساقه قائلاً: ما أقبح هذه الساق ألاّ يكون فيها القيد نُصرة لهذا الرجل!!!
وإن لم يكن بشر قد فعل شيئا في هذا الإطار، إلا أن قوله هذا تعبير عن حالة نفسية وتنظيمية عميقة، ينبغي توليدها في نفوس المنظمين إمعانا في التربية الإيمان العصيّة على المستبد وأدواته، تمكينا للدعوة وتوليدا لمواكب الإصرار على المسيرة، حتى تبلغ الأهداف، دون عدّ للضحايا أو التضحيات.
لست من عشاق الثناء، ولا المدح والإطراء، ولا هو ينتظرها منا، ولا أنا كذلك من هُواة التقديس لأحد، ولو كان هذا الأحد محمدا بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- في غير أمر وحي السماء، من الدنيويات والبَشريات، ولا أحبذ سلوكيات طُلاب الدنيا، ومحترفي النفاق، في التعبير عن مبادئهم بمسلكيات مُربكة ومشتة، ومُغيّرة لحركة البوصلة، فلا ينبغي أن نهتف لأحد بعينه، وإنما يكون هتافنا للمبادئ والقيم وثوابت الدعوة والعمل، المتجسّدة في هذا الأحد أيّا كان شخصه أو اسمه أو لقبه. ففي عام 1938م عقد طلاب الإخوان المسلمون مؤتمرا بدار جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وعندما وقف الإمام البنا للخطابة، إذا بأحد الإخوة من الطلاب تجيش عواطفه وتأخذه الحماسة فيهتف (بحياة حسن البنا)!! .. وبالرغم من أن هذا الهتاف لم يكن إلا صيحة في فلاه، لم تجد من يستجيبُ لها من الحضور، فقد وجدنا فضيلته يقف صامتا ممتعضا، وما هي إلا لحظات، حتى بدأ حديثه في غضب، فقال:
“أيها الإخوان إن اليوم الذي يهتف فيه في دعوتنا لأشخاص لن يكون ولن يأتي أبدا .. إن دعوتنا إسلامية ربانية، قامت علي قاعدة “لا إله إلا الله”، فلن تحيد عنها .. أيها الإخوان لا تنسوا في غمرة الحماس، الأصول التي آمنا بها، وهتفنا لها مِن كل قلوبنا “الله غايتنا”.
زكي بني ارشيد أهلا بك قامة كبيرة، وعلما من أعلام هذه الدعوة، تهتف بموقفك وفعلك وتضحيتك مع الهاتفين المهنئين لك بشرف الرجولة والثبات على الثوابت فتقول:
” إن اليوم الذي يهتف فيه في دعوتنا لأشخاص لن يكون، ولن يأتي أبدا، فمن أجلها دخلتُ السجن ومن أجلها وبها أخرجُ لأتابع المسيرة” وها نحن بانتظارك لتسعى معنا مجدَّدا في تصويبٍ وتعضيدٍ وتجميعٍ وتأليف، وتشاورٍ وتآخٍ، فالملفات بعدك باتت مُتراكمة، وتبعثرت بعض أوراقها، وحولَك الجميع يمدُّ يده، لتلافيها وتنظيمها. فطبت سجينا، وطبت حرا على كل حال.
ثبّتنا الله وإياك على دعوته، في خط سيرها نحو دولته، حيث تكون كلمته فيها العليا، وكلمة أعدائه سفلى، في لحظة التمكين القادمة، رغم المؤامرة والعدوان والخذلان لدعاة ودعوة على امتداد أمة وعالم، وُجِدَت لتُضحي لا لتغنم، ولكن الجهلاء لا يعلمون!!.
a_dooory@yahoo.com

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى