أزمة الخليج السياق ومربط الفرس!! / عبدالرحمن الدويري

أزمة الخليج السياق ومربط الفرس!!

بلوى الأمة بنظمهما السياسية، أشد من بلواها بالتنظيمات الإرهابية، التي أنشأتها – بشكل مباشر أو غير مباشر- ثم استثمرت بمحاربتها سياسيا وأمنا، لتكتسب شرعية البقاء، وهذه حقيقة باتت تدركها الأمة، أعمق ما يكون، في هذه الأيام!
نُظم قدّمت نفسَها لشعوبها على أنها صانعة الاستقلال، وحامية السيادة، وراعية التنمية، على مَديات زمنية متباينة، بين 70-100 سنة، لكنها كانت خلالها الكارثة الحقيقية، على الاستقلال والسيادة، والمبيدة لبذور التنمية!!
نظم صدَّرتْ فيها كلّ وضيع، وعاقدت كلّ خالع، وشاركت كلّ دنيء، وشيّخت كلّ فاجر، وأمّنت كلّ خائن، وباعدت وأقصت كل كريم، أو شريف، أو وَرِع، أو أمين، عفّ اليد واللسان، مما أهّلها بجدارة، لتكون في هذا القاع السحيق من المهانة!!
نظم بنت شرعيتها على رعاية مصالح شعوبها العليا، والمحافظة على تراث الأمة، وعقيدتها، وحماية دينها، ومناسكها، والذود عن حياضها، في مواجهة العدو الصهيوني الألد، ورأس الحربة المسموم في فلسطين، فإذا بها في سياق تطور، وتنامي الأحداث، شريك استراتيجي لأعدائها، ضد ذاتها ومصالحها، وأهلها وشعوبها، لصالح عصابة من فاسديها، ومُطبّليها المنسلخين من جلودهم، الفاقدين للمروءة، أو من غير المؤهلين أو المؤتمنين لإدارة شؤون البلاد والعباد!!
لكن الفواضح الكاشفة الهاتكة لهذه الحالة المتراجعة والتمزعزعة، بدأت مبكرا منذ عشر سنوات تقريبا، من لحظة الانقلاب على حكومة حماس المقاومة، القادمة عبر الصناديق، بدعم مباشر لدحلان، وتنسق مباشر مع السلطة الفلسطينية، وبالتالي مع الصهاينة، مما اضطر حماس للاستباق المخطط، والقيام بالحسم العسكري في غزة، ضد الحفنة الخائنة المنقلبة على إرادة الشعب، عام 2006م، حيث دخلت المقاومة مرحلة الحصار، مع مسلل التواطؤ مع المُحاصِرين، ثم تلتها الحرب الصهيونية الأولى على غزة، بالفسفور الأبيض سنة 2008م، على أمل الإجهاز على المقاومة، لكنها خرجت أشد عنادا، وأقوى وشكيمة!!
كانت أحداث “الربيع العربي” 2011م الصدمة التي جلبت الدُّوار للرؤوس الجاثمة على صدر الشعوب، فدشّنت سريعا حركة الرّدة، بالانقلاب على خيارات الشعوب الحرة، خصوصا بعد الوقفة الشامخة لمصر محمد مرسي، وقطر وتركيا، في توفير الظهير الحر، الداعم لصمود المقاومة الفلسطينية، والمساند لحاضنتها الاجتماعية في غزة، في الحرب الثانية 2012م، حيث زار رئيس وزراء مصر هشام قنديل – حينها- وبعده أمير قطر الوالد نفسه، لقطاع غزة، كتأكيد على الدعم والمساندة والشراكة في محور الصمود.
دفعت مصر الثمن مبكرا، بالانقلاب على الرئيس الشرعي، وإعلان الحرب على الشعب بالسحق في الشوارع لإسكاته (مذبحة ميدان رابعة ) بفتاوى المؤسسة الدينية المستأجرة، عام 2013، حيث كانت الاستعدادات –بالمقابل- على قدم وساق، لطي ملف الشرف المتبقي في الأمة (المقاومة حماس) بالعدوان الكاسح على غزة، عام 2014م، وبمباركة علنية من الغالبية العظمى من النظم العربية -خاصة الخليجية منها- غير أن المقاومة، صمدت وأذهلت الجميع، وقلبت السحر على الساحر، وجاءت بالمفاجآت العسكرية، والبراعة القتالية التي أظهرتها، بدعم ومساندة سياسية من دولتين يتيمتين هما تركيا وقطر!!
وفي 2016م تم تدشين الانقلاب من ذات الجهات على أردوغان تركيا، فأصيبت ألسنة ساستها بالخرس، وفاضت وسائل إعلامها، وأقلامها بالسموم، ترقُّبا لإعلان نجاح الانقلاب، والخلاص من الكابوس،إلا قطر أعلنت عن إدانتها له ومساندة الشعب التركي في محنته، فسلم الله تركيا، وانقلب السحر على الساحر مرة أخرى، فكنس أردوغان الخونة، وثبّت الأركان في استفتاء النظام الرئاسي 2017م.
لكن يبدو أن صبر الأستاذ الكبير قد نفد، وصادف هذا عهدَ رئيس ساديِّ الطباع، مهووس بالمال، مؤمن بنبوءات التواراة، جاء قبل شهرين لعُقر الدار، لاستيفاء “الكاش” من ثمن الحليب الذي توعد بحمله باستيفائه، في حملته، ووضْع الجميع أمام خيارات صعبة – كما يبدو- فاختاروا -للأسف- ما يظنونه الأسهل، وربطوا الفَرس حيث طلب صاحبها، وإذا بالمربط رفعُ الغطاء العلني عن المقاومة الإسلامية، وقلب معادلات الفهم لطبيعة الصراع التاريخي في المنطقة، لتصبح إيران –حصريا- البعبع، مع أنها بغيضة النهار، ضجيعة الليل!! ويصبح الخطر الداهم ممثلا المقاومة الإسلامية السنيّة حماس، وبالحركة الفكرية السياسية السنية المُحصّنة للوعي، والثابتة على ثوابت الإسلام بكليّاته، ممثلة بالإخوان المسلمين، بينما تصبح إسرائيل هي الشريك الُمقرّب في مقاومة الإرهاب، والشريك الاستراتيجي في ترسيم مُستقبل “بلاد العرب أوجاعي” للحقبة القادمة، كما أعلن أنور عشقي ذلك، من قلب تل أبيب!!
إن العبور إلى هذه الحالة صادم، مُفجع، غير مُستوعب، لكنه يحدث بالصوت والصورة، غير أن العبور إليه بشكل مريح مُتعذر، في ظل إصرار قطر على عدم مغادرة مربع الشرف، وفي ظل بقاء قناة الجزيرة صادحة، تملأ الفضاء -المأسور لمؤسسات الإعلام الكاذب المأجور- بكواشف الحقائق، باحترافية الأداء، ومهنية الطرح، وإصرارها على عدم تجريم المقاومة واتهام الإخوان، فتم اتخاذ الخطوة المباغتة -المسبوقة بسلسلة تعبئة وشيطنة- بقطع العلاقات، وإغلاق الحدود، وضرب الحصار والتلويح بالويل للمعترضين أو المتعاطفين صبيحة 5/6/2017م، وبدت الرغبة واضحة بتغير شكل النظام السياسي في قطر نفسها إن استدعى الأمر!
للأسف، تقف وتنظر من بعيد، فيهُولك حجم السقوط، ويحضر لذهنك ذاك الوصف، الذي أتى به الراعي النُّميري، في هجائه خنزرَ بن أرقم، في أمّه، مصورا إيّاها، وقد جاءته تَطْرُقُهُ، وتطلب منه العون، يوم أسلمها بنوها للذّلِ والحاجة، فلما قاموا بالواجب وأعطوها حاجتها: بيتا وناقة وطعاما ونارا، فاجأتهم، وعرضت عليهم من نفسها ما لم يكن بالحسبان:
فلما عَرَفْنا أَنَّها أُمُّ خَنْزَرٍ … جَفاها مَواليها وغابَ مُفِيدُها
رَفَعْنا لها ناراً تُثَقِّبُ للقِرى … ولِقْحَةَ أَضيافٍ طَويلاً رُكُودُها
ولما قَضَتْ من ذي الإِناءِ لُبانةً … أَرادتْ إِلينا حاجةً لا نُريدُها!!
هذا هو تماما حال النظام العربي، بعد مئة عام من الاستقلال المزعزم، وبعد 70 سنة من كارثتي النكبة والنكسة، وبعد كل الجولات من التفاوض والمؤتمرات، والمبادرات، والمؤامرات، عاد كأم خنزر -تماما- لا يخجل أن يفضحنا، بدخول المَخدع المحرّم علانية، دافعا قيمة السِّفاح المحرّم، مستعلناً به، عارضا نفسها على الراغبين، غير خجل، في سابقة عار تقصم الظهور، وتنكّس الرؤوس!!
أزمة الخليج أسقطت كل الأقنعة، وأزالت الأزر والسُّتور، ووقف الكل عُراة أما فاجعة، ومغامرة لن يصبر لها ضمير الأمة طويلا، خصوصا في دول الخليج، وستكون لها تداعياتها الرهيبة –وقد بدأت فعلا التغيّرات الثقيلة- التي ستجلب –حتما- في اللحظة الغامضة وفي الزاوية المعتمة، كل المتورطين بهذا المشهد مباشرة إلى حفرة الرجم، بشهود جمهور الأمة كلها، لإقامة الحد، على قوم مالوا عن الطريق ميلا عظيما، وتخذوا من دون أمتهم مدخلا ووليجة، يلجون منها إلى مصالحهم، ولو على حساب أمّتم ودينهم ومصالحها الإستراتيجية وهويتها، وتراثها وأمجادها، وذاكرة الأمة لا تنسى، وإن غفلت أو رهِبت، فأجّلت رد الفعل!!
• ملاحظة:
تعودنا أن تكون الخطط خمسية أو عشرية، لكنها في حالة النظام العربي، المُتنكر لذاته، والمتاجر برُفات مجده، باتت متسارعة، في كل سنتين تقريبا، وهي في السنوات الخمسة القادمة، آتية بالعجائب –كما يبدوا- والله المُسلّم واللطيف بعباده!!

a_dooory@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى