روعة التشبيه القرآني وجماله وإعجازه

#روعة #التشبيه_القرآني وجماله وإعجازه

#ماجد_دودين

(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)

في هذه الآية شبّه القرآن العظيم كلاًّ من الزوجين باللباس للآخر، وإذا تأملنا كلمة (لباس) وجدناها تحمل معاني عظيمة الدلالة على مدى الألفة التي أرادها الله للزوجيْن من خلال هذا التشبيه.

يضرب الله جلّ وعلا وتقدّس في القرآن الحكيم الأمثال العجيبة التي تبعث الخوف والرهبة والدهشة والعبر والتدبّر في قلوب المؤمنين. في مواضع عديدة في القرآن، يضرب الله لنا الأمثال لتوضيح أهمية بعض المواضيع، واستخلاص الدروس والعبر منها، وحتى نتمكن من التأمل فيها وتدبّرها. وكثيراً ما نسمع بأمثلة تتعلّق بالمنافقين وبالمشركين وبالمؤمنين. ولكن هناك مثلاً ضربه الله يزيد في المودة والرحمة بين قطبيْ مملكة الزوجيّة: الزوج والزوجة، وهذا المثل والتشبيه الذي عجزت كل لغات العالم أن تترجمه حرفياً يعد من أبلغ وأروع ما في القرآن وكل ما في القرآن رائع وجميل ومعجز.

في هذه الكلمات المعدودات يصف الله العلاقة الزوجية في سورة البقرة بقوله:

(هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) [سورة البقرة، الآية 187]

فهل يستغني أحد عن اللباس؟ فكيف يستغني عن الزواج ويؤخره بلا سبب معتبر؟

اللباس يستر العورات، فلمَ يفضح البعض شريك عمره وقد خُلِقَ لستره؟

 اللباس شعار ودثار، فكيف تصفو الحياة الزوجية وتخلو وتتخلّص من النفور والجفاء؟

 اللباس من أجمل ما نتزيّن به، فمتى يكون الزوجان أحدهما جمالاً للآخر؟

 اللباس وقاية من البرد والحر، فهل كل منا يشعر بأنه وقاية وحماية وأمان لشريك حياته؟

فما أعظمه من كتاب!

سبحان الله، شبّه سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوج والزوجة بالملابس. يقول الله تعالى أن كلا من الزوج والزوجة لباس لبعضهما البعض، وهذا يدل على المساواة التي جعلها الله بين الزوجين وأن لكل شريك دور فاعل وهام في العلاقة الزوجيّة.

وتذكّر مرة أخرى أن الله ضرب الأمثال في القرآن لنتدبر، فلنتأمل كيف يقارن الزوج بالملابس من عدّة وجوه:

  1. الملابس قريبة منك؛ وراء ملابسك بشرتك العارية. ويكون الزوج قريبًا من زوجه بهذه الطريقة، عاطفيًا وجسديًا.
  2. الملابس تحمي بشرتك من الخارج. الزوج هو المعيل والمنفق على زوجته، والزوجة هي التي تحمي بيت زوجها وممتلكاته.
  3. الملابس تمنحك نعمة الجمال. الزوج والزوجة يكملان بعضهما البعض في هذه الحياة وفي الآخرة.
  4. الملابس فيها الراحة والطمأنينة والسكن. عندما يكون الزوج حول زوجته والزوجة حول زوجها، يشعر كل منهما بالارتياح ويطمئن قلبه. يمكن للزوج أن يسكن حول زوجته والزوجة حول زوجها ويجد الراحة فيها وفي كلماتها عندما يواجه صعوبة.
  5. الملابس تسترك وتحجبك. ولا ينبغي للزوج والزوجة أن يناقشا عيوب بعضهما البعض في الخارج أو أن يشتكي أحدهما للآخرين من رفيق دربه.

فمن أوجه تشبيه الزوجين باللباس:

1 السَّتْرُ: فاللباس يستر السوأة ويغطيها، وسميت العورة سوأة؛ لأن الإنسان يستاء من ظهورها، فامتن الله على عباده بأن أنزل عليهم لباساً يغطي سَوْآتهم: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف: 26]، والزوجان لباس لبعضهما، يغطي كل واحد منهما الآخر، ويستر عيوبه وسوآته، مما يزيد الألفة بينهما، فالحياة الزوجية مبنية على الستر، لا على الكشف والفضيحة، وفي الحديث: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (رواه مسلم.

فما أجمل أن يتعامل الزوجان فيما بينهما بالستر، ليس في الفراش فقط، ولكن في كل شؤون حياتهما كلها، من مَطْعَم ومَلْبَس ومعيشة، حتى الخلافات الزوجية الأصل فيها الستر، وعدم النشر، وإلا صار حلها معقداً في الغالب.

والزوجان هما أعرف الناس ببعضهما البعض؛ فقد تنكشف لكل منهما أمور عن الآخر لا يَطَّلِعُ عليها سواهما، فمن الألفة بينهما أن تبقى مستورة («تفسير الرازي»، ج5 ص115

2الوقاية والحماية: فإن الإنسان يتقي بلباسه الحرَّ والبَرْد؛ (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل: 81].

إن الحماية التي يقوم بها كلا الزوجين للآخر كلباس له أعظم من اللباس الذي يحمي من الحر والبرد، فهما يشكلان لبعضهما حصناً يحميهما من الفاحشة، فالزوجة لباس لزوجها تمعنه بإعفافها له أن ينكشف على غيرها بطريق الحرام، فتكون لباساً له، والزوج لباس لزوجته، يمنعها بإعفافه لها أن تنكشف على غيره بطريق الحرام؛ فيكون لباساً لها، وفي الحديث: «إذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه، فليأت أهله، فإن ذلك رَدُّ ما في نفسه» (رواه مسلم

ولا تقف الحماية عند منع الوقوع في الفاحشة، فهي تشمل -أيضاً- الحماية النفسية والصحية والخُلقيَّة والمترتبة على الوقوع في الفاحشة.

3الدفء: حيث يقوم اللباس بعملية التوازن والملاءمة للجو المحيط بالإنسان، ونعني به الجانب العاطفي عند الزوجين، فقد يَلْحَق بأحد الزوجين ما يُعَكِّرُ صَفْوَه، ويؤثِّر في نفسيته، فيجد عند الآخر من العاطفة والاحتضان لهَمِّه ما يُصَفِّي كدره ويؤْنِسُه، ولا أظن أحداً يَسُدُّ مَسَدَّ هذا الجانب العاطفي عند الزوجين غيرهما، لا الأبوين ولا الإخوة، ولا الأبناء: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30].

4التكميل: حينما يكون الإنسان دون لباس يشعر أنَّ فيه نقصاً، فإذا لبس ما يستره سَدَّ ذلك النقص، والحال نفسه بالنسبة للزوجين، كل واحد منهما يُكَمِّل الآخر، وَيَسُدُّ نقصه، والرجل دون زوجةٍ فيه نقص، والمرأة دون زوج فيها نقص، فإذا تزوجا سُدَّ النقص الذي كان فيهما، فللرجال خُلِقَت النساء، ولهن خُلِقَ الرجال: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189].

5الجَمال: ذكرت أن العورة سميت بالسوأة لأن الإنسان يستاء من ظهورها، فيغطيها باللباس، واللباس لا يستر العورة فحسب؛ بل يُجَمِّلُ الإنسان أيضاً، ولا يكون الإنسان جميلاً دون لباس عند العقلاء.

وبالنسبة للزوجين، فإن كل واحد منهما جمال للآخر، جمال لمظهره، وجمال لصفاته وتدينه، يرى نقصه من خلاله، فيسد نقصه ليزداد جمالاً.

6التَّكَيُّف: وأعني بذلك أن اللباس قابل للتعديل عليه، فإذا كان واسعاً عُدِّلَ عليه، وكذلك العكس، والزوجان لبعضهما لباسٌ، كل واحد منهما عنده القابلية للتعديل على صفاته نحو الأحسن، وهذا يكون بالتنازلات، فالحياة الزوجية تقوم على المعروف، تماماً كاللباس؛ فعند حياكته لا بد أن تكون هناك زوائد في القماش لا يحتاج إليها -مهما كان ثمنها-، وإذا أقحمناها في اللباس فإنها ستفسده وتشوهه، وكذلك بالنسبة للزوجين لا بد أن يستغني كلاهما عن صفات وتصرفات، وجودها يشوه الحياة الزوجية ويفسدها، حتى وإن كانت عزيزة عليهما.

7المطابقة: مما يتصف به اللباس أن يكون مطابقاً للجسم، مكان وضع الأرجل يختلف عن مكان وضع الأيدي، وجهة الكتف تختلف عن جهة الخصر، فلا بد أن يطابق كل جزء من اللباس الجزء الذي يقابله من الجسم، ونفس الشيء بالنسبة للزوجين، لا بد أن يكون بينهما تطابق يزيد الألفة بينهما، تطابق في الدِّين، والخُلُق، والنَّفْسية، جاء في الحديث: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (رواه مسلم.

8الالتصاق: فاللباس يلتصق بالجسد ويلازمه، والشيء نفسه بالنسبة للزوجين.

قال صاحب «التفسير الحديث»: «وفي الآية: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187] تنويه بعلاقة الزوجين ببعضهما، وما يجب أن تقوم هذه العلاقة عليه، من الصفاء والتواد، والتمازج، حتى يغدوا كشخص واحد، وروح واحدة، وقلب واحد» (دروزة، محمد عزت، التفسير الحديث.

هكذا أراد القرآن العظيم أن تكون العلاقة بين الزوجين، علاقة نَقِيَّة لا تشوبها شائبة، ولا يعتريها ما يفسدها أو يُعَكِّر صفوها، فحري بالأزواج أن يستشعروا هذه المعاني السامية التي حَضَّ عليها القرآن العظيم.

سبحان الله، إن ربنا هو الرؤوف الرحيم الذي جعل هذه الطمأنينة والسكينة بين الزوجين. وكما يقول ابن كثير في تفسيره لسورة الروم: ولو جعل الله جميع ذرية آدم ذكورا، وخلق الإناث من نوع آخر، كالجن أو البهائم، لم يكن بينهم وبين أزواجهم تناغم أبدا. كان من الممكن أن يكون هناك اشمئزاز لو كان الزوجان من نوع مختلف. ومن تمام رحمة الله أنه جعل زوجاتهم من جنسهم وخلق بينهم المودة والرحمة. فإن بقاء الرجل مع المرأة لأنه يحبها، أو يعطف عليها إذا كان بينهما ولد، أو لأنها تحتاج إليه في رعايتها، ونحو ذلك.

سبحان الله، هذا مجرد مثال جميل آخر يوضح أن ديننا كامل حقًا وأن الله قد هدانا من خلال كتابه الكريم في كل جوانب حياتنا، ولهذا يجب أن نشكر الله تعالى.

هذا المثل والتشبيه بين الزوج والزوجة والثوب هو من الأمثال الكثيرة التي وردت في القرآن والتي ينبغي أن نتفكر فيها ونتدبرها، وهذا من حكمة الله ورحمته أن يبين لنا آياته بطريقة هي الأكثر ملاءمة لعقولنا وقلوبنا ونفوسنا وأرواحنا وأجسادنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى