ديوان المحاسبة والأمير الفَعّال

#ديوان_المحاسبة والأمير الفَعّال

د. #حفظي_اشتية

مبكرا جدا ظهر الإدراك في “الإمارة” بضرورة الرقابة المالية، فأُنشئت دائرة اسمها “مراجعة الحسابات”، تطورت صلاحياتها فعُدّل اسمها إلى “دائرة تدقيق الحسابات” سنة 1930م.

وفي سنة 1931م اصطبغ عملها بشرعية قانونية، إذ صدر قانون تدقيق وتحقيق الحسابات، وانصبّ جهدها على فحص الحسابات الحكومية وتدقيق الإيرادات والنفقات، وتنقّل ارتباطها بين رئاسة الوزراء ووزارة المالية.

ومع صدور الدستور الأردني سنة 1952م أشارت المادة 119 منه إلى تشكيل قانون ديوان محاسبة لمراقبة إيرادات الدولة ونفقاتها وطرق صرفها، فصدر قانون ديوان المحاسبة رقم 28 لسنة 1952م، تبعته تعديلات لاحقة حدّدت مهام الديوان وواجباته وصلاحياته وميادين عمله..

وتجلّت رسالته في محاربة أشكال الفساد المالي والإداري كافّة، والمساهمة في إصلاح الأنظمة المالية والإدارية للدولة، وتعزيز مبادئ الشفافية والمساواة في الإدارات الحكومية…. وأصبح الديوان بذلك سندا عظيما لمجلس النواب في دوره الرقابي والتشريعي، يرفع إليه تقريرا سنويا، تذهب نسخة منه إلى رئاسة الوزراء.

ومن باب الإنصاف البعيد تماما عن أية مجاملة، يجب علينا الاعتراف بأن الديوان يبذل جهودا كبيرة في رصد الخلل المالي والإداري، واستقبال الشكاوى، وتوجيه الأسئلة والاستيضاحات، وتلقّي الإجابات، وإصدار تقرير سنوي ضخم بأوجه القصور والخلل في عمل الوزارات والمؤسسات والبلديات…. في عدة مجلدات من آلاف الصفحات.

لكنّ السؤال الضخم هنا هو : هل يتم دائما تصويب هذا القدر العظيم من الخلل المالي والإداري ؟؟ ويترتب على هذا السؤال الأساسي أسئلة فرعية كثيرة، منها :

ــ هل يملك الديوان صلاحية المعاقبة كما ملك صلاحية المساءلة والاستيضاح والمحاسبة؟

ــ هل يملك إحالة المقصرين في إداراتهم العابثين بالمال العام أو المتغاضين عن العبث به إلى القضاء لينالوا جزاءهم المستحَقّ؟

ــ هل يتم في نهاية كل سنة مراجعة ما تمّ تصويبه مما ورد في تقرير السنة السابقة، ومتابعة المساءلة والمحاسبة بشأن ما لم يتمّ تصويبه؟

ــ لقد أدّت الزيادة في أوجه الخلل المالي والإداري إلى تعزيز ديوان المحاسبة بديوان المظالم وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد، فهل هناك تقاسم للصلاحيات بين هذه الجهات الرقابية، وتضافر للجهود وتبادل للمعلومات؟

ــ المواطن المتضرر من قرار إداري مختلّ فاسد، عندما يتقدم بشكوى إلى ديوان المحاسبة، هل يملك الحق في معرفة ماذا حصل بشأن شكواه، أم أن الديوان يكتفي بتوجيه السؤال وتلقّي الجواب المعزَّز بالأعذار الملفقة الواهية دون تحقيق الإنصاف للمواطن المظلوم؟

سنعرض مثالا متواضعا خياليا من حكايات السندباد، يشكّل أنموذجا دالّا تطبيقيا يمكن الاستناد إليه واقعيا، والقياس عليه لمعرفة مدى فاعلية تصويب الخلل المالي والإداري :

اشترى أحدهم نصف دونم أرض يقع على شارع رئيسي عابر للمحافظات، ضمن حوض بأحكام تنظيم زراعي، ثم تملّك خطأ وبسعر زهيد جدا فضلة طولية أمامه مخصصة لتوسعة الشارع الضرورية، وبدأ الحفر والبناء مرتكبا كل مخالفة قد لا تخطر على البال حتى في الخيال :

اعتدى على مساحة الشارع الرئيسي، وقطع شارعا تنظيميا، وخفّض منسوبه لتهوية تسوياته، وعلّق أراضي المجاورين، ومنعهم من الشارع الذي يخدم أرضهم، وحرمهم من إفرازها، وخصص الشارع الذي اعتدى عليه للنوافير والكهوف التجميلية والتراسات لاستقبال ضيوف المصلحة، وإقامة الولائم والعزائم والحفلات وسهرات السمر، واعتدى اعتداء سافرا على الارتدادات والتهويات من جميع الجهات، بل بنى على صفر الحد مع المجاورين وفتح النوافذ والبرندات، وتجاوز نسبة البناء المسموح بها إلى خمسة أضعافها، وتجاوز أيضا عدد الطوابق المسموح به من طابقين إلى خمسة طوابق، مع برج مراقبة عبثي ترفي استعراضي معلّق في الفضاء ينتهك كل حرمة للمجاورين ويخنق حريتهم في الحركة.

تمت محاسبته على هذه المخالفات الهائلة وفق نظام سنة 2016م المخفَّف، رغم أن البناء كله وفق الصور الجوية تمّ عبر عدة سنوات بعد سنة 2017م، ويسري عليه تماما النظام المعدل الذي غلّظ العقوبات والغرامات، فضاع بذلك على خزينة الدولة مبلغ يقارب 120000 دينار حسب تقدير موظف ديوان المحاسبة، الذي رفض توقيع المعاملة، فأجازها رئيس البلدية على مسؤوليته الشخصية خلافا صارخا لأمانة المسؤولية…..

مضى على هذا الأمر سبع سنوات عجاف، والمتضررون يواظبون على الشكوى والمراجعة لكل الإدارات والجهات الرقابية التي تستمر بالسؤال إثر السؤال، والإدارات تجيب الجواب إثر الجواب، بينما الواقع ما زال على ذات الحال، والمنوال هو المنوال. بل إن المعتدي دأب على رفع الدعاوى الكيدية الافترائية بحق المتضررين لإيذائهم وإشغالهم وإسكاتهم وإبعادهم عن حقهم!!!!! إن انطبق هذا المثال على شيء من واقعنا، فهل نتعظ منه ونعتبر؟؟ وهل يحق لنا السؤال: ما فائدة كل الرقابة إن لم تصوّب خللا وتنصف مظلوما؟؟!!

قيل : إن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه صعد المنبر أول مرة بعد خلافته، فأُرْتِجَ عليه بعض الوقت، ثم حمد الله وصلى على رسوله وقال :” أما بعد، فإن أول كل مركب صعب…. وإنكم إلى أمير فَعّال أحوج منكم إلى أمير قَوّال.”

فاستحسن الناس هذه الكلمات القليلات، وأصبحت لديهم مثالا للمختصر المفيد البعيد عن الإطالة النظرية الخطابية غير المجدية.

وبذلك نستنتج أننا نحتاج أن نستثمر الجهد النظري العظيم لديوان المحاسبة، فنحوّله إلى إجراءات عملية ذات أنياب لتصويب كل خلل مالي أو إداري، وهذا هو المأمول والمراد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى