سُخام الوالي/ ميس داغر

سُخام الوالي

في عهد أحد الولاة، انتشر مبيت الناس في العراء، بسبب عجزهم عن بناء سقوفٍ تقيهم شمس الصيف ومطر الشتاء، مما تسبّب بالحرج لوالي البلاد أمام ولاة البلدان الأخرى. ولشدّ عضُد القِلّة التي تسكن المنازل المسقوفة، والتي تُظهر الوجه الحضاري للبلاد، قرّر الوالي مكافأة هذه القِلّة بمائدة غداء يومية، يجتمعون حولها مع عوائلهم في قصره العظيم. وسمّيت هذه الفئة من الشعب “السقوفيون”.
في المقابل، ظلّت فئة الذين يبيتون في العراء من الشعب- وهم الغالبية- من غير تسمية، إلى أن لاحظ الطُهاة في قصر الوالي أنّ سُخام دخان الطهو، الذي يتصاعد كل صباح مع إشعال النار تحت القدور، يتكاثف على رؤوس النائمين في العراء، فيُسخّمها تسخيما. بعد هذه الملاحظة، فازت فئة النائمين في العراء بتسمية “المُسخّمون”.
في بداية عهد تقديم الوالي ولائمه للسقوفيين، كان هؤلاء يلتهمون كُلّ ما يُقدّم إليهم بعناية فائقة، فلا يتركون خلفهم شيئاً في أطباق الطعام. ولو صدف مثلاً أنّ أحدهم تذكر بعد عودته إلى منزله تركه لكسرة خبز واحدة على مائدة الوالي، فإنه قد لا تُشرقُ عليه شمس اليوم التالي إلاّ فاطساً من حسرته وقهره.
بعد تتابع الولائم مدةً من الزمن، صارت أيادي السقوفيين تمتد إلى ما على المائدة من تجهيزات الأكل: ملاعق، أواني، كؤوس، ونحوها. فبمجرد انتهاء غدائهم، يحملون هذه التجهيزات معهم إلى بيوتهم.
ثمّ، وفي وقتٍ لاحق، بلغ الحدّ بالسقوفيين أن لاحقوا طهاة الوالي على عُدّة طهيهم. فتراهم عند انتهائهم من غدائهم اليومي، يقتحمون برج الطهو، فيلمّون القدور والمغارف وحطب النار إلى بيوتهم.
الوالي، أثناء كل هذا، ظلّ يتجمّلُ بحِلمٍ لا مثيل له مع السقوفيين. وآلى على نفسه الصبر وتعويض ما يُنقصون من ماله وعُدّة طهاته، لأجل أن يظلّوا رافعين رأسه بسقوفهم أمام الأمم الأخرى.
في يومٍ ما، وبعد إحدى الولائم، وأثناء اقتحامهم لبرج الطهو، وقع نظر السقوفيين من شرفات البرج على المسخّمين حول القصر، فتذكروا أنّ هؤلاء يتسخّمون يومياً بدخان قدور الوالي. هذا الدخان الذي يعتبر السقوفيون أنفسهم أحق به. فعقدوا اجتماعاً فورياً مع الوالي، وطالبوه بحقّهم في أن تتسخّم رؤوسهم بكرم سُخامه، مثلما يتسخّمُ بكرمه المسخّمون.
الوالي، الذي كان بذل الغالي والنفيس في بطون هؤلاء، قال لنفسه “أفأعزّ عنهم سخام طهوي! عيبٌ في حقّي”. واتفق معهم على منحهم ليلةً في الشهر يبيتون خلالها في العراء مع المسخّمين كي تطالَ رؤوسهم مكرُمة السُخام. وهكذا فعلوا، لكنهم وبعد أول مبيت لهم في العراء وجدوا أنّ السُخام لا يمسّ رؤوسهم، بل لكأنه يتحرّى رؤوس المسخمين تحديدا، فلا يصبغُ إلاّها!. ضجّ السقوفيون من هذا الوضع غير المنصف واتهموا الطبيعة بالتواطؤ مع المسخّمين.
قرروا عقد اجتماعٍ ثانٍ مع الوالي يشكون له الأمر. وبرغم أنّ الضجر منهم في تلك المرحلة بدأ يتسلل إلى نفسه، إلاّ أنّ الوالي وافق أن يسوّي مع السقوفيين اتفاقاً جديدا، فقضى هذه المرة بطرد المسخمين من حول قصره في ليلة مبيت السقوفيين في العراء. وأمر منادياً ينادي في الشعب بهذا الأمر. وهكذا فعل المسخمون؛ لمّوا أمتعتهم وعوائلهم ورحلوا من حول قصر الوالي، وناموا في مكانٍ بعيد. لكنّ رحيلهم هذا لم يُفد السقوفيين في شيء، إذ إنّ السُخام لم يصبغ رؤوسهم هذه المرة أيضا. لمّا تحرّوا الأمر، وجدوا أنّ مُسخّماً ضريراً أصمّاً أبكماً، لم يسمع منادي الوالي عندما نادى برحيل المسخمين، ولم يُبصر رحيلهم، فبقي في مكانه، وشاء حظّه الذي يفلقُ الصخر أن يتسخّم وحده بكل سُخام تلك الليلة.
ضجّ السقوفيون من جديد، واتهموا الأقدار بالتواطؤ مع المسخّمين. وطالبوا باجتماعٍ ثالثٍ مع الوالي بخصوص هذا الأمر. لكنّ الوالي كان قد ضاق ذرعاً بمطالباتهم فرفض هذه المرة مقابلتهم، وأمر نائبه أن يُبلغهم ما يلي: “من يُرد منكم التنعّم بسُخام الوالي، فليسقط سقفه”.
في اليوم التالي، سقط الوالي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى