ترّهات فأر / (محمد فتحي المقداد)*

ترّهات فأر

قصة قصيرة
الرتابةُ تكتنف جُلّ وقتي الهادئ بسكونه المريب، الظلام يخيّم على الزنزانة الانفراديّة، كل يوم لي زيارة خاصة إلى إحدى زواياها، فأقضي نهاري وليلي قابع فيها، بينما حنين الأخريات لجلستي فيهن، صفاء الروح جعلني أسمع حسيسهن، ولكل منها متعة مختلفة عن الأخرى، قراءة الذات؛ أصبحت وِرْدًا يوميًّا يستغرقني في ملكوت فضاءات، لم أكن أشعر بها في ضجيج الحياة قبل ذلك، المراجعة الذاتيّة لم أحظ بها أبدًا، جاءت الوحدة القسرية نعمة، لم أكنْ أحلم بها في يوم من الأيام، خربشة في الزاوية المقابلة، نبهتني إلى أمر غير متوقع بتاتًا، صوتٌ يأتيني، يكسر رتابة الصمت المهيب المريب، بالسلام، بالكاد تبيّنتُ ماهِيّتَه، أوه..!!، يا إلهي إنه فأر ضخم، شكله مخيف، ذكرّني بسلاحف النينجا الأفريقية، انكمشتُ على نفسي، وأنا ألملم أطرافي خوفًا من الاعتداء على أي منها، جلسَ مُقْعِيًا على مؤخرته، مُسْتندًا إلى ركن الزاوية المتين، عيناه تبرقان، فأضاءتا المسافة بيننا، الآن تبيّنتُ، وتمليتُ ملامِحَه بشكل حقيقي.
الفأر: أرى علامات الدهشة قد استولتْ على ملامحك، ألم تر في حياتك فأراً مثلي يتكلم؟، ألا تتذكر توم وجيري، -أطلق ضحكة مجلجلة دوى صداها في أذنيّ-.
أنا: لا في الحقيقة، ولا في الحلم، تخيّل أنني كنتُ أصدّقُ ذلك في صغري أيام المدرسة، وأنا أقرأ كليلة ودمنة، ولمّا كبرتُ قليلًا، كنت على يقينٍ أنّ عقلي كان قاصرًا عن إدراك كونها قصصًا كتبها دبشليم على لسان الحيوان، لغاية في نفسه، وللخروج من غضب السلطان، وأعوانه.
الفأر: نعم صدقتَ، ولكنني فأر مختلف تمامًا عمّا تعرف، أو بما يخطر على بالك، مما هو طريف وغير واقعي، سأختصرُ الوقت قبل تبديل نوبة الحراسة، وأنا قادمٌ إلى هنا، مررتُ بالحارس، رأيتُه مُتكوّمًا على نفسه، عيناه مغمضتان، شخيره متقطع، سيجارته انطفأت بين اصبعيْه، سأروي لك شيئًا، ربّما يكون طريفًا بالنسبة لك، وللأمانة التاريخية، أنا مهتمٌّ بقضايا التاريخ الحقيقية، وأهزأ بكم معشر البشر، وأنتم تقرؤون، وتصدقون ما تقرؤون، بلا تحليل وتركيب، وعمل تقاطع بين المعلومات، لاستنتاج شيء جديد على غير المألوف, والمعروف.
أنا: هاتِ ما عندكَ أيها الفأر..!!.
الفأر: العالم كله يعرف ويعلم، أن خروتشوف رئيس الاتحاد السوفييتي، ضرب بحذائه على الطاولة اعتراضًا على انتقادات رئيس الوفد الفلبيني للسياسة الخارجية السوفييتية في أوربا الشرقية، ووصفها بالاستعماريّة، أثناء الجلسة العامة للأمم المتحدّة في نيويورك 1960، بينما شاع أن هذه الحادثة جاءت احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر1956، وما لم يقله أحد على الإطلاق، سأقوله لك، أنت وحدك بالذات: أثناء الجلسة هذه، تسللتُ إلى قاعة الاجتماع، وبينما كنتُ أدُورُ تحت الطاولات، وبين أرجل الكراسي، أغراني لمعان حذاء خروتشوف خاصة، وتغلب طبعي عليّ، رغم أنني أعرف مدى حساسيّة الموقف، ودقته المتناهية، فقمتُ بِعَضِّ مقدمة الحذاء، وانغرست نَابَايَ الكبيران خلال الجلد الطري، لينفذا إلى أصابع رجله، فلما أحس بالألم، لم يحتمله، فقام بخلع الحذاء، تصادف ذلك مع توجيه إحدى الصحفيين المكلفين بتغطية الجلسة عليه (الكاميرا) الرئيس، شدّة الألم جعلته يضرب الطاولة.
أنا: هيه..، أيها الفأر، هذا كلامٌ خطير، سيقلب الموازين، و النظريات السياسية القائمة والمعروفة.
الفأر: إذا لم تصدقني، عليك بالبحث و المراجعة، وكما أعلمُ أنك قارئٌ جيد، وكاتب قصصي مرموق. سأخبرك عن حادثة إطلاق القنبلة النووية على هيروشيما.
أنا: أظنّ أنك ستقول هذه المرّة، أن لك علاقة بهذا الموضوع ..!!، و ما أدري ما الذي يجعلني أسمع فأرًا حقيرًا؟، وقد اقتحمتَ عليّ عُزلتي.
الفأر: سامحك الله يا أستاذ، سأتـغاضى عن هذه الاتهامات، ولم أفهم سببًا مقنعًا لنظرتك العنصرية المعادية لساميّة الفئران، على كلٍّ، فلن أتردّد في متابعة حديثي الذي بدأته معك، فقد تسللتُ إلى تلك الطائرة، واختبأت تحت كرسي الطيّار، طال انتظاري، ولم أستطعه أكثر، وهدير الطائرة لم يتوقف، كاد أن يُسَبِّبَ لي الصمم، تحركت من مكاني إلى الفسحة الصغيرة بين قدميّ الطيار، ما إن أحسّ بوجودي ولمحني بطرف عينه، ركلني بضربة موجعة على ظهري، انطلقت بسرعة للأعلى، بحركة مفاجئة من يد الطيّار، أراد أن يبعدني بها عن كبسة قاذف مظلة النجاة، لأن مجاله الجوي ضمن منطقة معادية، فضغطت يده على كبسة قاذف القنابل ، وكانت هيروشيما، و ماتزال سجلًّا حزينًا في ذاكرة اليابانيين، فدوّنوه في صفحة سوداء قاتمة من تاريخهم الحديث.
أنا: قاتلك الله.. أيها الفأر الهرم على شنيع فعلتك، أنا أعتبرك أنك القاتل الحقيقي، ها ..!!، وماذا بعد هات من عندك، وأخْرِجْ من جعبتك شيئًا آخر، ولم تخبرني أين ذهبت أنيابك، وأسنانك؟.
الفأر يضحك بصوت عال، وقهقهة هزّت أركان الظلام في الزنزانة، وقال: في الحقيقة، أنه في السنوات الأخيرة، مؤكّدٌ أنك سمعت بالفنانة هيفا وهبي، وأغنيتها الشهيرة ” الواوا”، أغرتني ألوان المسرح وأضوائه، ولمعان ساقيْها، بينما الموسيقى بدأت في المقدمة الموسيقى، وكانت أغنيتها ستبتدئ بموّال زَجَلٍ لبناني” يابا .. يا بابا”، لم أستطع مقاومة الإغراء، الفرقة مشغولة بحركات المايسترو البلهاء، و المطربة نظراتها تتركز على المايسترو العجوز، تقدمت بسرعة خاطفة لعضّ قدمها، من شدّة ألمها، وبغنج الدلع، صارت تشير إلى قدمها، وهي تغني “الواوا” بدل “يابا.. يا.. يابا”، المايسترو مُنهمكٌ في عالمه، لم يلحظ تغيّرًا ما، بينما مُخرج الأغنية تابع تصويره، وراقت له الفكرة، وكأنها مبتكرة في عالم الفن، وهو يغرس نظراته في حركات “هيفا”، وهي تتلوى من الألم، ألمٌ ممزوجٌ بالإغراء، حاولتُ الهروب باتجاه آخر، وكانت عصا المايسترو لي بالمرصاد، وهي التي أسقطت أسناني.
أنا: صرختُ بأعلى صوتي: اغْرُب عن وجهي، أيها الفأر القميء، وخرجتُ من الزنزانة لأجدني في فضاء رحيب، وأعلن للملأ بأعلى صوتي عدم تصديق كذب و افتراءات ذلك الوغد الأفّاك. بينما أتملل في فراشي وإحساسي بتعرّق جسدي بأكمله، ترافق ذلك مع رنين ساعة المنبّه، فنهضت من فراشي بسرعة، قاصدًا الحمّام والنوم يتلبّدُ على جفنيّ.

عمّان – الأردن

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى