تحت الضوء

تحت الضوء
د. هاشم غرايبه

تكاد تجد لدى جميع المنسلخين عن أمتنا الناقمين على منهجها، صفة مشتركة لازمة، وهي أنهم مبهورون بالغرب، قد يكون ذلك مبررا إن كان بتفوقهم التقني الهائل عنا، أو بتميزهم عنا بأن أنظمة حكمهم رشيدة.
لكن انبهارهم أبعد من ذلك، إنه اختراق ثقافي انسداحي، وإعجاب التابع بالمتبوع، أي بكل ما فيهم: قيما وتقاليد وثقافة، لذلك تجدهم يشتركون جميعا في محاولة تمجيد كل ما لديهم ويتغاضون عن مساوئهم وشرورهم ونقائصهم، فيسألون من يجادلهم في ذلك: ماذا يقدم المسلمون للعالم غير (الإرهاب)، وبماذا نفعوا البشرية بمثل ما قدم لها الغرب من تقدم الطب وعلوم نافعة واختراعات توفر الرخاء!؟.
لا يمكن إنكار أن ما تحقق من تقدم في هذا العصر هو من انتاج الغرب، لكن ليس لأنهم اتبعوا عقيدة أقوم من عقيدتنا، ولا لأن قيمهم أفضل من قيمنا، بل لأنهم تفوقوا علينا عسكريا فقط، وفرضوا علينا أنظمة حكم أدامت التخلف لنبقى أتباعا مستهلكين،.. ذلك هو التعليل بكل بساطة.
الأيام دول، فالحضارات تتداول السيادة عبر العصور، وكان المسلمون هم المخترعين والفلاسفة والمفكرين منذ القرن السابع حتى الثالث عشر، في حين كان الأوروبيون متخلفين عنهم كثيرا، بسبب قصورهم الذاتي، وليس بسبب استعمار المسلمين لهم ونهبهم خيراتهم، بل على العكس أتاحوا الفرصة لمن أراد منهم نقل العلوم والتعلم، ولم يحجبوه ويحتكروه كما يفعل الغرب حاليا بتقييد نقل التكنولوجيا الى الدول النامية، ومنعهم من الحصول على أسرارها، أي ما يسمونه (know how).
ولعل خير دليل على ذلك، الرسالة المحفوظة في ملفات الوثائق البريطانية، والتي بعثها جورج الثاني الى الخليفة الأندلسي هشام الثالث مع البعثة الطلابية البريطانية التي ذهبت للتعلم في جامعات الأندلس، ومما جاء فيها: “من جورج الثاني ملك إنجلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام، وبعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أربعة أركان ..”.
ورد عليه الخليفة المسلم ردا كريما: “…أطلعت على التماسكم فوافقت على طلبكم بعد استشارة من يعنيهم الأمر من أرباب الشأن، وعليه نعلمكم أنه سوف ينفق على هذه البعثة من بيت مال المسلمين..”.
عندما بدأ انهيار الدولة الإسلامية عسكريا رافقه تراجع في كل المجالات، فلما بدأت النهضة في أوروبا كان ذلك بعد ظهور الأمم القوية فيها، وبدأت في استعمار العالم والسطو على خيراته، لذلك ازدهرت اقتصاديا، فنشأت الرأسمالية الصناعية، وجاءت الثورة الصناعية لتلبية متطلباتها في تعظيم الإنتاج وصناعة وسائل المواصلات لتسهيل نقل البضائع والتصدير، فكان التطوير والاختراع بسبب تنافس المجمعات الصناعية، فكانت المكننة (اختراع الآلات) لتقليل الاعتماد على اليد العاملة وتخيض كلف الإنتاج.
إذاً لم يكن الأمر بدوافع نفع البشرية بل بسبب الطمع بالربح الأكبر.
للمقارنة بين إنسانية الحضارتين، لنأخذ الطب مثالا: ففي حين كانت الدولة الإسلامية تبني المشافي وتقدم العلاج مجانا، وجد الأوروبيون أنه أحد أبواب الاستثمارات الأعظم ربحا، لأنه يعتمد على استغلال حاجة الإنسان لغريزة البقاء، لذلك تكثفت البحوث والدراسات ودعمت بسخاء من قبل المستثمرين في هذا الحقل، لأنها تحقق عوائد هائلة.
هنا نلاحظ الفارق في المنهج، فلأن دافع الجشع أقوى بكثير من دافع الرأفة، لذلك نجد أن مصطلح العمل الإنساني غير موجود في الثقافة الرأسمالية، فكل شيء سلعة، تقيّم بمدى ما تحققه من ربح، حتى مرض الناس وحياتهم، لذلك فصناعة الدواء تعتمد على الإحتكارالذي يطلقون عليه حقوق الملكية الفكرية، فكل شركة تطور علاجا هي تحدد سعره، ولا يحق لشركة أخرى تصنيعه إلا بامتياز منها.
صحيح ان الأبحاث تكلف الكثير، لكنها تسترد في بضع سنين، وبعد اطفاء الكلف الأساسية تتحقق أرباح هائلة، كون سعر بيع الدواء، يكون بعشرات أضعاف كلفة التصنيع.
أما التأمينات الصحية، فهي استثمارات تجارية مربحة لشركات التأمين، وليست عملا خيريا.
وما يقدم تحت مسمى المساعدات الطبية الإنسانية للدول المفروض عليها التخلف، فهو استثمار بعيد الأمد، يحقق اختراقاً اقتصاديا وثقافيا للدولة المانحة، ويثمر في الاستحواذ السياسي والتجاري على البلد المتلقي للمساعدات.
فالمثل الغربي يقول: “لا يوجد عشاء مجاني..هنالك من سيدفع الفاتورة في النهاية”.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى