بيت العيلة..

مقال الثلاثاء 29-12-2015
بيت العيلة..
ليس من باب الصدفة او الترف أن تستخدم كلمة “بيت” للدلالة على “الغرفة” في ذاكرتنا الشعبية ..فنقول البيت الشرقي والبيت الغربي والبيت الوسطاني عند وصفنا لغرف الدار…فالبيوت القديمة كانت مكوّنة بالأصل من غرفة واحدة يضاف اليها غرفة أخرى اذا ما تيسّر من الحجر والطين ما يكفي لبناء بيت جديد ملاصق واذا تحسّن الحال يختتم الحلم العائلي بغرفة ثالثة ملاصقة لمن سبقتها ليصبح صاحب الدار يملك “3 بيوت صفّ”..وكانت عبارة “ثلاث بيوت صف بوجهن لمشرّق”…و”ثلاث بيوت صف بوجهن لمغرب” …الخ…مدعاة للتفاخر عندما يريد ان يصف الرجل بيته لشخص ما…
**
كان “بيت العيلة”..يشبه قلوب أصحابه ، واسعاً لكن دافىء، فوضوياً لكن ودود ..فيه “صوبة بواري” تنبض بالدفء وتؤنس الأولاد ، تنكة عامرة بالفاصولياء تغلي فوق رأس الصوبة المتوهج..كتب مفتوحة على عين الامتحانات ، حرامات ولحف ثقيلة تغطي الأكتاف الساهرة ،فراش احتياطي يطلّ بكرشه فوق مطوى الخشب ،يشبه احتياطيات الجيوش العربية التي لم ولن يستدعى في يوم ما… “نيون” طويل نصف مضاء عند نهايتيه “سواد” يشي بقرب انعطابه ، وثمة “مطّاطة” تشدّ من أزره ليبقى صامداً في وجه العتمة لحين انقضاء منخفض الامتحانات…نملية في قاعها مونة الزيت، وقطرميزات المقدوس ،وأكياس الورق التي حوت في أسبوع ما اكعاب الهريسة الحمراء حيث يأتي الاحتفاظ بها من باب الوفاء ..وقرب الخابية معجن متخم بعجين الصباح يختمر على مهل تحت دفء فروة قديمة وسجادة صلاة ، وقرب العتبة خلف الباب إبريق كاز ومحقان حديد، ومكنسة ما زالت بذور القشّ عالقة بها، تكسو رأسها “شريطة” مخيّطة جهة المقبض..وفي صدر البيت طفل نام على ركبة أمه..وآخر أطبق دفاتره على خطوط الرصاص ووضع يده تحت رأسه ونام…وثالث يحاول تقشير برتقالة بشكل لولبي دون ان تنقطع القشرة الطويلة ..ورابع يخربش على ورق”الماعون” مسائل معقدة فيها سين وصاد…
“بيت العيلة” هذه الأيام..كصالة انتظار في مطار..الكل يدير ظهره للآخر بسبب انشغاله بهاتفه النقال ، جرس تنبيه رسائل الواتساب هو الناطق الوحيد في بيوتنا الصامتة ..لا أحد يسأل الآخر او يحاوره الا في الحدود الدنيا ثم يغرق السائل والمجيب في أيقونات التطبيق من جديد…
**
“بيت العيلة” شئنا ام أبينا هو مرآة قلوبنا … في السابق كان فوضوياً وفقيراً لكن عواطفه مرتبة…صار الآن مرتّباً وغنياً لكن عواطفه مبعثرة…

حتى الحب صار يقوى ويضعف مع شبكة الواي فاي…

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫12 تعليقات

  1. نفس الشيء اصبح يميز جلساتنا العائلية وغير العائلية .. مشاويرنا .. زياراتنا … قعداتنا … رحلاتنا … أفراحنا … اتراحنا … في المستشفيات .. في الباصات .. في الأماكن العامة والدوائر الحكومية .. الواحد منا صار يتمنى يفتح باب حوار متصل مع الاخرين دون ان تقطعه نغمات الواتساب .. فيبقى نصف الجملة المنطوقة معلق في الهواء والنصف الاخر حبيس الحنجرة الى حين الانتهاء من تبادل الرسائل …. افتقدنا دفء التواصل مع كل هذه البرودة في التواصل التي صار الواي فاي ينشرها من حولنا مع ذبذباته

  2. جميل وصفك يا زعبي لانك عشتها كما عشناها وتتحسر عليها كما نحن…ايام يا ريتها تعود بشقائها

  3. ذكرتني بأيام القلوب النظيفة وأيام السعادة والضحكة اللي من القلب تطلع والدفئ والحنان .. الله يقويك ويطول عمرك يارب أبدعت 👍🏻

  4. كانت وسائل الاتصال ضعيفة (سيارات قليلة، شوارع غير كافية، هواتف أرضية بالدور ولسنوات) لكن التواصل كان قوي. الآن تحسنت وسائل الاتصال بما لم نكن نحلم به وضعف التواصل والله المستعان

  5. وصف رائع ودقيق لبيوت عشناها وما زلنا نتذكرها بكل التفاصيل التي ذكرت….رائع ومبدع كما انت…بعرف بيت عيله فصلوا صندوق للتلفونات…لمن ييجوا ولادهم وبناتهم المتزوجون للزيارة…يضع التلفون في الصندوق والمفتاح مع الام…بستلمه وهو مروح…حقها بدها تشوف ولادها وبناتها واحفادها

  6. مختار قريتنا ابو نادر الله يرحمه كانه عنده مهباش ببلش دق القهوه بعد الغروب مباشره بطريقة احترافية صوته يصل لجميع بيوت الشعر كرساله جماعية (عالواتس) يدعوهم فيها للسهر في المظافة كانت قلوبهم عامره بالحب عامرة بالخير يا ويلي عهذيك الايام .

  7. يا زعبي…. اهرب من قراءة مقالاتك لانها تدمي قلبي على زمن لا ارغب في ان اعرف غيره …. ذاك زمن الاردن الذي احببنا فيه كل تفاصيله الصغيرة جدا جدا…. نموت كل يوم الف ميته فقط لاننا نحيا وطن في الذاكرة…. ونعيش ارض في الحاضر لا نعرفها.

  8. بيت العيله كهذا المجتمع وذلك الوطن …
    كان بسيط ومتواضع في طلته تخدشه وتخجله ادنى كلمه نابيه
    واليوم صار انيق في مظهره ولا تهزه اقذر الافعال (الخاسيه )

  9. يا الله ما اجمل المصطلحات التي استخدمت في هذا المقال ….. بوركت وبورك قلمك ايها المبدع الموهوب

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى