سرّ المهنة / ميس داغر

سرّ المهنة

من بنكٍ في نهاية شارع رُكَب في رام الله، خرج عاملُ باطون وهو يعدّ ماله القليل بعد صرف راتبه الشهري. وعلى الأرض أمام البنك، كان يتربّعُ متسوّلٌ أنيق، بربطة عنق وكندرة لمّاعة.
مدّ عامل الباطون يده بشيقل واحد إلى كفّ المتسوّل، وهمّ بالإنصراف. لكنّ المتسوّل قبض على كفّ العامل بشكلٍ مباغت فمنعه من المغادرة، ثمّ أعاد الشيقل إلى يد صاحبه مُعتذراً: لا تؤاخذني يا أخي، ليتني أستطيع قبول هذا الشيقل، لكن الصحيح أنّ هذا الأمر ليس بمقدوري، فشيقل واحد لا يُقدّم ولا يؤخّر في وضعي.
تسمّر عامل الباطون في مكانه وعيناه تائهتان بين الحيرة والإرتباك.
تابع المتسوّل: واضحٌ أنك لا تنتبه لغلاء الأسعار في البلد! احسبها معي.. مواصلاتي إلى هنا وحدُها تتطلّب ثلاثين شيقلاً في اليوم. ورجل عاقل مثلك يعلم أنّ جلوسي هنا من السابعة للسابعة ليس ببلاش؛ ذلك أنني لو أردت تسليك جوعي بأرخص ساندويشة فلافل، فسيرتفع مصروفي اليومي إلى خمسةٍ وثلاثين شيقلا. ثمّ إنّ ربّ عائلة عطوف، مثلما يظهر على وجهك الكريم، يعلم أنني لا أستطيع العودة إلى المنزل مساءً من غير أن أشتري للأولاد متاعا، ولو بسيطا. هكذا تجد أنني أحتاج في الحد الأدنى إلى خمسين شيقلاً في اليوم لتمشية أموري. بلا مؤاخذة يا أخي، لو أنّ أربعين مُتصدّقاً في اليوم مدّوا لي بشيقل واحد مثلما فعلتَ، لكان أشرف لي إذن أن أنسحب من هذا الكار.
ذاب عاملُ الباطون حَرَجاً، وأبقى الشيقل في يده يترجّى المتسوّل قبوله: يا عمّي مشّيها المرّة.. أنا عامل باطون، وأنت أدرى بالحال.
– أحلفُ لك أنني لا أستطيع. أجاب المتسوّلُ بعصبية، ثمّ سحب من علبةٍ معدنيةٍ بجانبه سيجارةً كوبية، أشعلها وهو يتابع شرحه للعامل الذي بقي مجمّداً قبالته: كل هذه المصروفات من غير أن أتطرق للمال الذي أخسره يومياً في عملية تحويل شواقلي إلى دولارات. شيقل واحد يا أخي لا يُجدي، إفهم الكلام.
– وهل تحوّل شواقلك إلى دولارات؟ ما الذي يضطرّك؟
– زوجتي تضطرّني. إنها تحب أن تنفش ريشها أمام الباعة. أقنعَتْ الجميع أننا أميركان.
رغبَ العاملُ في الإستفاضة في الحديث مع أغرب متسوّلٍ مرّ عليه. تأمّلَ أناقة المتسوّل وعلّق بتهكّم: أنتم بالفعل أميركان. ألا تنظر إلى أناقة هندامك؟
تلفّتَ المتسوّلُ عن يمينه وشماله وأجاب بصوتٍ خفيض: هذا ما يُسمّى سرّ المهنة. هل لديك عمل تذهب إليه الآن؟
– معي ساعة قبل أن أعود إلى ورشة البناء.
قام المتسوّلُ من مكانه وسحب العاملَ من ذراعه مُسرّاً إليه: دعنا إذن نجلس في مكان ونتحدث، فقد ارتحتُ إليك.
ثمّ اصطحبه إلى مقهىً فاخر في البلدة القديمة من رام الله.
– ماذا تشرب؟ سأل المتسوّلُ العامل.
– الشاي بالنعناع.
– أنت تطلب الشاي لأنك لا تعرف المشروبات الأخرى، فالشاي منطقة آمنة بالنسبة لك. سأعرّفك اليوم إلى صنفٍ جديد. أيها النادل: تو آيسد تي لو سمحت.
كان العاملُ يشعر بالذهول من تصرّفات المتسوّل، لكنّ فضوله جعله يوافق على المجىء إلى هنا مع الرجل.
– هل تتردد إلى هنا كثيراً؟ سأل العاملُ المتسوّلَ وهو يتأملُ ديكور المقهى المعتّق.
– مرتان أو ثلاث في الشهر. أدخّن وأنظم الشعر أحيانا.
– وهل أنت شاعر؟
– لا. لكنّ ادعاء نظم القصائد يُضفي رومانسيةً على وضعي.
ثمّ استطرد المتسوّل: كنتَ سألتني عن أناقة هندامي، وأخبرتك أنّ هذا هو سرّ المهنة.
– نعم، ماذا كنت تقصد؟
– هل تعلم يا صديقي كيف تستطيع التمييز بين الدخلاء على مهنة التسوّل من المخضرمين فيها؟ من هندامهم. الدخلاء، ولقلة خبرتهم، يعتقدون أنّ ظهورهم بملابس بالية يجلب لهم استعطاف الناس. لو أنني الآن أجرّك تحت إبطي وأنت بهذه الهيئة الرثّة، ثم أشحذ عليك ليل نهار، هل باعتقادك سأجمع ملّيماً واحد؟ طبعاً لا. لقد ملّ الناسُ من هذه الحركات الكلاسيكية للفقراء. يتطلب الأمر منك هذه الأيام القيام بابتكاراتٍ خلاّقة لإثارة تعاطف أرباب المال.
شدّ العاملُ –بحركة تلقائية مُرتبكة- جانبي معطفه على قميصه الملطّخ بالباطون، وأخفى جزمته الموحلة تحت الطاولة.
وجّه المتسوّلُ نظره خلف النافذة المجاورة وأشار للعامل:
– هل ترى المُسنّ السمين الذي ينزل من المرسيدس؟ لو أنّ رجلاً مثل هذا، محشوّاً بالدهن الأصليّ ولا يرتدي إلا الماركات، يفردُ الآن منديله على الأرض أمام الجامع، لراهنتك على أنه سيجمع في نهاية اليوم عشرة آلاف دولار.
بدا العامل وهو يتلفّت في المقهى حوله ويستمع إلى المتسوّل كأنما هو يتعرّف إلى عالمٍ جديد. انتابه خليطٌ من مشاعر الاستغراب والضيق والشك. حدّق في عيني المتسوّل مباشرةً وسأله بازدراء: وكيف تفترض مني أن أصدّق صحّة نظريّتك هذه في التسوّل، في حين يتكشّف لي أنك لصٌ محتال؟
احتقن وجه المتسوّل ودافع عن نفسه بصلابة: قد أكون أخدع الناس، لكنني لا أكذب عليك بخصوص سرّ المهنة. قُل لي، ماذا خطر ببالك للوهلة الأولى عندما رأيتني، لماذا قررتَ التصدّق عليّ؟
– خطر لي أنك سليل عائلة نبيلة، جار الزمانُ عليك.
– وهنا مربط الفرس؛ أن تقنع صاحب المال أنك سليل عائلة نبيلة. هل تذكر المثل الذي يقول العين هي التي تأكل؟ العين أيضاً هي التي تشتري تعاطف الناس وودّهم أو تجاهلهم. كل أحوال الدنيا تعتمد على العين يا أخي. إقنع العين تضع المخ في جيبك. إلبس ملابس باذخة، ولو كنت أفقر الناس، سيُعاملك الناس كمليونير. ومن هو أكثرُ إستدراراً لعاطفة البشر من مليونيرٍ جار الزمانُ عليه فمدّ يده للمارّة؟
ظلّ العاملُ غير قادرٍ على بلع هذا الكلام، أحسّ أنّ نظرية التسوّل هذه تعلق في حلقه مثل مكعب ثلج. شعرَ بنفسه كما لو أنه يتخطّى منطقة الشاي الآمنة ويلجُ فضاء الآيسد تي. تعززت مشاعرُ الضيق لديه وهو يرتشف أول رشفة من هذا المشروب الجديد، فلا يحبه. ما لبث أن سأل جليسه باحتقار: أنت إذن تجري تحليلاً نفسياً للناس قبل استجدائهم المال؟
– ماذا أخبرك لأخبرك! أن تكون متسوّلاً ماهراً يعني أن تكون قبل هذا عالمَ نفسٍ وشاعراً ورجل سياسة واقتصاد.
– أتركُ لك علم النفس والشعر والسياسة والاقتصاد، تأخرت على الورشة. أغلق العاملُ الحوارَ على نحوٍ مفاجىءٍ بهذا الجواب، فيما كان يدفع بكأس الآيسد تي إلى منتصف الطاولة ويقوم من مقعده.
– ماهذا؟! أنا أعلّمك أسرار مهنة خطيرة تنتفع بها إلى آخر عمرك، وأنت تنسحب بعدم اكتراث؟
لكنّ عامل الباطون خرج من باب المقهى دون أن يتكلّف عناء الرد على المتسوّل، مما أثار غضب الأخير، فلحقه وصرخ خلفه باستخفاف: كان عليّ أن أتنبّه منذ البداية إلى أنّ هذه المهنة كبيرة على مقاسك، فأنت مجرّد عامل باطون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى