المهنة المحسودة

سيد المقادير

مقال الثلاثاء 19-11-2019
المهنة المحسودة
أكثر مهنة أحسد صاحبها عليها،وكنت أتمنّى لو أن الله منّ عليّ بها لعشت حياتي برضا نفسي واستقرار وسكينة وهدوء وإقبال على الحياة أكثر..ولو أن في العمر بقية لتعلّمتها ولرميت الأقلام وهجرت الصحف والتحقت بها منذ الصباح الباكر..
ما زلت أحسد “شيف” الفندق على مهنته..
يكون العالم مشغول بالسياسة والأخبار العاجلة والتحالفات الدولية والثورات ، وهو يقبع في طابق التسوية بين الخضار والفاكهة والدجاج المشلّح وأكتاف الخرفان وأرداف الحبش،لا يعنيه كثيراً التقاء رؤوس السياسة في الطوابق العلوية من الفندق بقدر ما يهمّه انتقاء “رؤوس”البصل التي سوف يضعها في الطنجرة الكبيرة ، لا يهمّه مصطلحات “التسوية” بقدر ما يهمّه مصطلح “الإستواء” ولا يعنيه كثيرا الشعوب التي تجز في الحروب بقدر ما يعنيه جز البقدونس وتشريح البندورة الايطالية..
هذا الرجل يتمتّع بسلام داخلي وهدوء قلّ نظيره ، لا يشغل باله في أول النهار : الا ماذا يطبخ لهم هذا المساء وليس ماذا يطبخون له كل لحظة ، يكفيه رفقة الطناجر ولا يعنيه رفعة الطناجر السياسية، يقابل الدخان الذي يتصاعد في المدن والساحات ببخار مسالم يتصاعد من قدور الطهي ويقابل رائحة البارود في الدول المتحاربة برائحة البهارات في المقادير..ياااه كم هو محظوظ هذا الرجل!!.
لا يأبه بكل ما يجري هناك في الغرف المغلقة ولا في دور الرئاسة ولا القصور الملكية ، يعنيه أن ينجز المهمّة في وقتها ويسكب الوجبات في الصحون ويزّينها كما يجب ، لا يكترث بالمتصارعين على الكراسي ..فكرسيّه لا ينازعه عليه أحد ولا ينافسه عليه أحد ، محجوز له وإن غاب، وكلما مكث عليه أكثر كلما تمسّك به أصحاب العمل والزبائن أكثر ، الكل يأكل من تحت يديه معارضة وأحزاب حاكمة ، فصائل وخصوم ، مرشّح منتظر وسياسي منتهية ولايته..كل العناصر التي يتحكم بها؛ خضروات ولحم ودجاج وبهارات وبعض الأدوات من المغارف والسكاكين والملاعق والطناجر مختلفة الأقسام..
آخر النهار يخلع قبّعته الطويلة من على رأسه ويفك أزرار الثوب المخصص للطهي وينزع عنه مريول العمل ويغادر من الباب الخلفي للفندق..دون أن ينتبه إليه أحد ودون أن يقترف ذنباً أو يسجّل في سجّل خطاياه روح أزهقت أو نفس ظلمت…

سيد المقادير…كم احسدك!

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى