المثقف الجاهل

#المثقف #الجاهل
بقلم: د. هاشم غرايبه
الأصل في المثقف أنه متنور، لكنه يقع في حمأة الجهل حينما يكون منغلقا.
تباين القناعات عند البشر تجاه أمور ينبغي أن تكون محل اتفاق، هي من حكمة الخالق “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” [هود:118]، ولذلك أوجد البشر وخلق لهم عقولا لكي ينتهج الانسان منهجه باختياره خدمة للتعددية الفكرية، والتي ستوصل ذوي الألباب في النهاية الى الاهتداء الى الغاية من الوجود والمغزى من الحياة .
منذ أن أشبع الإنسان الأول احتياجاته الغريزية بدأ بالتفكير في معنى ما حوله بدءا بتفسير الظواهر الطبيعية، والتي اعتقد أنها هي التي تتحكم به وبالطبيعة من حوله، وأن لكل واحدة منها حاكما مستقلا (تعدد الآلهة)، وما أن فهم أنها محكومة بقوانين محددة تربطها وتضبطها معا حتى أيقن أن هنالك قوة مجهولة واحدة تتحكم بها (التوحيد)، لكن العقبة الوحيدة كانت عدم معرفة كنه هذا الإله بواسطة الأدوات الحسية التي يملكها الانسان، فكان لا بد من استكمال تلك المعرفة عن طريق النقل الصادق (الرسل) .
ولما كان الانسان بطبيعته “أكثر شيء جدلا” فقد رفض معظم الناس ما جاء به هؤلاء الرسل، رغم انهم معروفون لقومهم بالصدق والاستقامة، ومعززون بمعجزات، لتثبت أنهم مرسلون من الله، كونه القادر الوحيد على تعطيل قوانين الطبيعة.
وذلك يدحض حجة من يناوئون الدين الذين يدّعون تقبله، إنما يرفضون تسلط رجال الدين واستغلاله لصالحهم، فقد قاوموا من هم صفوة البشر (الانبياء) المنزهون عن المنفعة الشخصية من قبل .
العقل البشري يعتمد الشك كوسيلة لليقين، لكن البعض يتوقف عند الشك ولا يغادره إما جهلا أو تجاهلا لدوافع مصلحية أو تعصبية، وفي غالب الأمر الإثنين معا .
يختلف المثقف عن الشخص العادي بأنه شغوف بالمعرفة، ولا يكتفي بما عرف بل يستزيد، لذا فليس من المعتاد أن يتصف بالجهل، لكن ما يوصله الى هذه النقيصة انغلاقه على فكر لا يتقبل له نقدا، فلا يقرأ إلا ما يماشيه ولا يجالس إلا من يشاكله، فيزداد نزولا في بئر الانغلاق، وشيئا فشيئا لا يعود يرى من فضاء المعرفة إلا ما تفسحه له فتحة البئر تلك من نور ضئيل! فذلك هو عين الجهل .
قد يكون مقبولا من العالم الضليع في علمه أن يكون جاهلا في علم سواه، فقد تجد استاذا في الفيزياء لكنه لا يعرف في الطب شيئا، لكن لا عذر للمثقف إن كان جاهلا، لأن سمته الالمام بشيء من كل شيء، ومقتله أن يتوقف عن القراءة المتعددة المصادر وأن يلغي المراجعة والتعديل.
قد تجد شخصا يعتبر نفسه مثقفا، لأنه قرأ أشعار هوميروس وطاغور وحكم كونفوشيوس وفلسفة اليونان لكنه لم يقرأ القرآن منذ المدرسة، ومبلغ علمه به هو ما كتبه عنه الاستشراقيون والتبشيريون، فاخذ ذلك على علاته ولم تدفعه موضوعيته المدعاه الى التحقق من صحة تلك المعلومات بالرجوع الى المصدر الأصلي .
أليس ذلك التجاهل صنوا للجهل؟.
كثيرون من المثقفين لم يتبين لهم كم خسروه جراء انجرارهم الى الجهل المبني على التعصب لفكر ما، لكنهم تنبهوا متأخرين، فهذا (عمرو حمزاوي) أيد الانقلاب الذي أسقط فيه العسكر دولة مدنية شرعية، رغم علمه بأنه الرئيس العربي الوحيد الذي وصل للحكم بالطريقة الديمقراطية عبر انتخابات نزيهة حقيقة، وتأييده هذا كان بدافع من تعصبه ضد الإسلام، لكنه اكتشف أنه بذلك يخون مبادئه التي تدعو للدولة المدنية المتأسسة على دستور لا يجيز للعسكر العمل السياسي، وندم على فعلته التي نمّت عن جهله بحقائق الأمور ولكن متأخرا.
وكذلك فعل علاء الدين الأسواني وغيره كثيرون، ممن انتبهوا الى خطئهم متأخرين.
ألا يعني ذلك أنهم اتخذوا قراراتهم المؤيدة للإنقلاب تلك، متلبسين بحالة الجهل بسبب الإنغلاق التعصبي الذي غيّب التفكير المنطقي الحر!؟.
بالمقابل أصر أغلب المثقفين على تجاهلهم وليس جهلهم، بعضهم انسجاما مع طبيعته الانتهازية، وآخرون مدفوعون بالتعصب لفكرة مزورة مبنية على اتهام باطل، بأن الإسلام مناقض للديمقراطية ومانع من التقدم، وما زال كثيرون يرفضون مجرد البحث في صدقية هذا الادعاء .
أليس ذلك هو الجهل بأسطع صوره؟؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى