القدس : سِفر الحرب والسلام

#القدس : سِفر #الحرب و #السلام

د. حفظي اشتية

لم تعرف منطقة على هذه الأرض صراعا داميا لا يكاد ينقطع كما هو الحال في القدس”مدينة السلام” التي لم يكن لها يوما من اسمها إلا القليل من النصيب، فتمثّل واقعُها عبر العصور مسرحية تراجيدية لا تنتهي، تجدد حكاية قابيل وهابيل، وغربان تحوم دوما تُرشد الضالين إلى مواراة جثث بني البشر الظالمين أو المظلومين.

ورد في إحدى الموسوعات المعرفية أن هذه المدينة العظيمة قد تم تدميرها تدميرا تاما مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتم احتلالها واستردادها 44 مرة…. وهكذا مضى عمرها سابحة في أنهار من دماء، أو أنهار من دموع.

مقالات ذات صلة

ولعل الصراع الدائر الآن يتجلى فيه الحق المهضوم مقابل الظلم الغشوم أكثر من أية حقبة أخرى شهدتها المدينة عبر عصورها. وحتى لا يكون إصرارنا على حقنا مجرد حماسة عاطفية، لا تستند إلى الحقائق التاريخية، تعرض المقالة سردا موجزا لتاريخ المدينة، وتجذر الحق العربي الإسلامي فيها، وأهم محطات الصراع التي شهدتها:

ــ من جنوبي جزيرة العرب، بعد أن شحت المياه ومصادر العيش، خرج الساميون مهاجرين على شكل موجات بدأ أولها في الألف الثالث قبل الميلاد على أقل تقدير، إذ إن بعض المؤرخين يعيد الأمر إلى أبعد من ذلك، وقِدَم مدينة أريحا خير شاهد.

توجه الكنعانيون إلى بلاد الشام، واستوطن اليبوسيون منهم فلسطين، وبنوا مدينة القدس، وأسموها ” يبوس “، ثم ” أورساليم “. يعني مدينة السلام، أو مدينة الآله ساليم. وتعهدوها بالعمران والتحصين، وجعلوها على أربع تلال، وأحاطوها بسورين، ومدوا لها قنوات المياه، وزرعوا جبالها بالزيتون والعنب والتين. وتفرق الكنعانيون في أرجاء فلسطين وبنوا العديد من المدن : شكيم، بيت شان، مجدّو، بيت إيل، أشقالون…..

ــ جاءها سيدنا إبراهيم عليه السلام من العراق حوالي 1900ق.م.، وعبر منها إلى مصر، ثمّ أسكن زوجته هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام في بطن مكة، وعاد ليدفن في الخليل.

ــ مكّن الله لسيدنا يوسف عليه السلام في مصر، فاستقدم والده سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وإخوته الذين كادوا له، واستقروا جميعا في مصر تحت حكم الفراعنة حوالي 1600ق.م.

ــ في سنة 1225ق.م.، خرج بنو إسرئيل مع سيدنا موسى عليه السلام من مصر، ونظروا أرض كنعان وخيراتها، ورأوها الأرض الموعودة، فحاولوا دخولها من الجنوب، وواجهوا سكانها الجبارين، فنكصوا، وعُوقبوا بالتيه أربعين سنة، ومات سيدنا موسى عليه السلام دون دخول فلسطين.

ــ عبر يوشع بن نون نهر الأردن حوالي، واحتل أريحا، وأعمل فيها ذبحا وتدميرا، ثم دار صراع مرير مع الكنعانيين وملكهم ” مُلكي صادق “، ودافعوا ببسالة عن أورساليم، وفشل يوشع في فتحها، ثم مات، فحكم بعده يهودا وأخوه شمعون، وحاولا ففشلا أيضا، ولم يتحقق ذلك إلا حوالي 1000ق.م، على يد سيدنا داوود عليه السلام، الذي قتل القائد جالوت، وانتصر، ودخل المدينة وسماها مدينة داوود، وبنى فيها قلاعا وحصونا، وحكم أربعين سنة. وورثه سيدنا سليمان عليه السلام الذي حكم 33 سنة أخرى، وهذه السنوات الثلاث والسبعون هي الفترة الوحيدة الجليّة لمملكة إسرائيل الموحدة.

ــ بموت سيدنا سليمان تنازع ابناه ملكه، فانقسمت مملكة إسرائيل بينهما إلى شمالية سُميت إسرائيل عاصمتها السامرة ” شكيم : نابلس “، وجنوبية اسمها يهوذا، عاصمتها أورساليم التي سماها رحبعام بن سليمان أورشاليم.

كثرت حروب اليهود فيما بينهم، وحروبهم مع جوارهم، وهزمهم ميشع ملك مؤاب، ثم جاء القائد الآشوري سرجون الثاني سنة 722ق.م فقضى على دولة إسرائيل الشمالية، وسبى اليهود، ثم سقطت مملكة يهوذا بيد الفراعنة سنة 603ق.م .

ــ في سنة 586ق.م، جاء الملك البابلي نبوخذ نصّر فقضى على دولة يهوذا تماما، وهزم آخر ملوكهم ” صدقيا “، ودمر المدينة، وهدم معبدها، ونقل الملك مع من تبقى من اليهود إلى بابل فيما عرف بالسبي البابلي الثاني الكبير.

ــ سقطت بابل بيد الفرس، فسمح الملك الفارسي ” قورش ” سنة 538ق.م لليهود بالعودة، فكان قراره أشبه بوعد بلفور الأول، وظلوا تحت حكمه حتى سنة 332ق.م .

ــ استولى الإسكندر الأكبر المقدوني على فلسطين سنة 332ق.م، واستمر خلفاؤه المقدونيون، والبطالمة في حكم المدينة حتى سنة 198ق.م، فأصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا.

ــ استولى الرومان على أورشاليم سنة 63ق.م، وضُمت إلى الإمبراطورية الرومانية، فقام اليهود بأعمال شغب في القرن الميلادي الأول، فجاء القائد الروماني ” تيطس “، وأحرق المدينة، وأسر اليهود. ثم تمردوا مجددا في القرن الميلادي الثاني، فسارع القائد الروماني ” هدريان ” إلى تدمير المدينة ومعبدها مجددا، وأخرج اليهود منها، ولم يسمح لهم بالعودة إليها، وأبقى على المسيحيين فيها، وغيّر اسمها إلى ” إيلياء “.

ــ نقل الإمبراطور الروماني ” قسطنين الأول ” عاصمته من روما إلى بيزنطة، وأعلن المسيحية ديانة رسمية للدولة، وبُنيت كنيسة القيامة سنة 326 م.

ثم انقسمت الدولة سنة 395 م إلى قسمين متناحرين طال صراعهما، فضعفت الدولة، فعاد الفرس بقيادة ملكهم كسرى الثاني لاحتلال إيلياء، وظلت بأيديهم من سنة 614م ــ 628م، فاستعادها الرومان بقيادة ” هرقل “.

ــ بُعث سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام سنة 610م، ثم وقعت حادثة الإسراء والمعراج لتعلن رباطا وثيقا بين إيلياء وعروبتها وإسلاميتها.

ــ سنة 636م كانت جيوش الفتح الإسلامي تحاصر المدينة بقيادة سيدنا أبي عبيدة عامر بن الجراح بعد الانتصار العظيم في معركة اليرموك، وأصر بطريرك المدينة “صفرونيوس” على تسليم مفاتيح المدينة لخليفة المسلمين سيدنا عمر بن الخطاب، فكان له ذلك، وكانت العهدة العمرية للمسيحيين الذين اشترطوا عدم دخول اليهود إلى المدينة التي غُيّر اسمها من إيلياء إلى القدس.

ــ نعمت القدس بالأمان والعمران في العهد الراشدي ثم الأموي، فبنى عبد الملك بن مروان مسجد قبة الصخرة سنة 692م، وأعاد الوليد بن عبد الملك بناء المسجد القبلي سنة 709م، فأصبح الطابع الإسلامي طاغيا على المدينة.

ــ لكنّ الوهن دبّ في أرجاء الدولة العباسية، واشتد الصراع بين السلاجقة والفاطميين، فأغرى ذلك ممالك أوروبا، فرفعوا لواء الدين، واجتاحوا المشرق الإسلامي طامعين غزاة فاتحين، واستولوا على القدس سنة 1099م بعد حوالي خمسة قرون من الحكم الإسلامي، وارتكبوا مذبحة يندى لها كل جبين.

ــ رفع عماد الدين زنكي لواء التحرير، ومضى ابنه الشهيد نور الدين على عهده، ووحد صلاح الدين مصر وسوريا، فكان النصر المبين في حطين، وتحرير القدس سنة 1187م بعد 88 سنة من الاحتلال، وأعيد تعمير المدينة وتطهير مساجدها.

ــ تنازع أبناء صلاح الدين ملكه بعد وفاته، فأعاد إبنه الكامل تسليم المدينة للصليبيين لينصروه على أخيه الملك الصالح، الذي استردها بعد 11 سنة من تسليمها.

ــ بعد سقوط بغداد سنة 1258م، تعرضت فلسطين للغزو المغولي، لكن سرعان ما هزمهم المماليك بقيادة سيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، في معركة عين جالوت سنة1260م، فسلمت المدينة، وبقيت في ظلال حكم المماليك حوالي 250سنة.

ــ بزغ نجم العثمانيين قوة طامحة لتأسيس امبراطوريتهم، وانتشرت فتوحاتهم شرقا وغربا، وتوّجت بفتح القسطنطينية ” إسطنبول ” سنة 1453م، وتنازعوا السيادة على الشرق مع المماليك، فوقع الصدام الحتمي بينهم في مرج دابق شمالي حلب، فهُزم المماليك رغم بسالتهم، وأصبحت القدس ضمن الخلافة العثمانية.

ــ حاول محمد علي باشا في مصر الانفصال عن الخلافة العثمانية، ومدّ عينيه إلى الشام، واحتل القدس سنة 1831م، وبقيت في يده حتى سنة 1840م، فاستردها العثمانيون ثانية.

ــ ضعُفت الدولة العثمانية، وكثرت حروبها، وتآمر الغرب الاستعماري على العالم الإسلامي والعربي معا، فدخل القائد البريطاني اللنبي القدس مستعمرا سنة 1917م، وصرخ صرخته النكراء : الآن انتهت الحروب الصليبية. وكان القائد الفرنسي يركل قبر صلاح الدين في دمشق صائحا : ها قد عدنا يا صلاح الدين.

ظهر وعد بلفور، وكرست بريطانيا فترة انتدابها من سنة 1920م ــ 1948م لتأسيس “دولة  إسرائيل”، وحدثت النكبة، ورغم استماتة أهل البلاد، والمتطوعين العرب، وبعض الجيوش العربية، وأبناء العشائر الأردنية، وأبطال الجيش العربي الأردني، في الدفاع عن فلسطين والقدس، إلا أن القدس الغربية أُعلنت عاصمة ” لإسرائيل ” في أيار 1948م، وبقيت القدس الشرقية أمانة غالية إلى سنة 1967م، حيث تم احتلالها بعد دفاع مجيد شريف، ودماء أبطال الجيش العربي الأردني ما زالت حناء يضوع أريج الشهادة منه على أسوارها وجنباتها.

ــ استمر أهل البلاد بالصمود والدفاع طوال فترة الاحتلال، وها هم يمهرون بالدم كل يوم عروبة القدس وإسلاميتها، منتظرين يوما موعودا ونصرا مشهودا ووعدا متحققا أكيدا، ولعله ليس بعيدا….

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى