الصعلصة

#الصعلصة

شبلي العجارمة

قال عبدالملك بن مروان ذات يوم “من قال أن حاتم الطائي أفضل الناس إحساناً فقد ظلم عروة بن الورد “,ألقاب کثيرة أطلقت علی الآخير ,منها عروة الصعاليك ومنها أمير الصعاليك .
الخلعاء من العرب ,أو حرکة الصعاليك , ,أو شعراء #الصعاليك التي نشأت في منتصف القرن الخامس إلی السادس الميلادي ,هذا ما قصدته تحديداً ,فقد تبلورت هذه القضية وأخذت بالظهور نتيجة عوامل شتی ,منها وعلی رأسها الظروف الاجتماعية والاقتصادية والمکونات النفسية التي ألقت بظلالها علی إنسان ذاك العهد المتوسط ,جراء الإجحاف الاجتماعي ,وحدود #الظلم والجور اللذان وصلت لحديهما کفتا ميزان #الاقتصاد المکسور .
کان الفقر والغنی لاعبان أساسيان في ميدان تبلور وتشكُل حالة الصعلکة,إذ لا يختلفان بشکلٍ بعيد عن حرب داحس والغبراء کعاملي حرب إبادةٍ طاحنة بين عبسٍ وذبيان حتی نصف قرنٍ من الزمان إلا عشرا ,لکن ما يميز حقبة الصعلکة عن ما سبقها من حروب العرب العبثية ,أنها کانت ذات طابعٍ غلبت عليه النخب العقلية والذات الإنسانية التي تسيدت مشهد الصعلکة أو حرکة الصعاليك ,کان الفقرُ حاضراً بکل وحشيته وبراثنه في ذلك الوقت ,لکن الفقر هناك تزاوج مع عقلياتٍ من جهابذةٍ الشعر وعمالقة من حملة الأنفة والقيم ,فمن منا لا يعرف ثابت بن أوسٍ الأزدي الملقب بالشنفری !,ومن منا لا يحفظ من لامية العرب التي تنسب إليه أبيات تنوب عن وجهه الذي غاب عنا وحضر شعره ,فهو الذي يقول :
أقيموا بني أمي صدور مطيکم
فإني إلی قومٍ سواکم لأميلُ
فقد حمت الحاجات والليل مفمرُُ
وشدت لطياتٍ مطايا وأرحلُ
ومن منا لا يقرأ وجه الفقر في صفحات عروة بن الورد أمير الصعاليك الذي ينشدها زوجته فيقول :
دعيني للغنی أسعی فإنني رأيتُ الناس شرهمُ الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسی له حسبُُ وخيرُ
هنا عندما اجتاح الظلم نخبة عصرهم ,وعندما استبد الجوع والتهميش وأمکن من عقولٍ اتخذت القيم إلی جانب الفکر والأدب درعاً وترساً ورماحا للحياض عن حرمة إنسانيتهم ,والتصدي لأشرس هجمات الجوع والفقر والتهميش من بين أقرانهم ,فقد حملوا قيماً لا تضاهيها قيم هذا الزمان ,حيث أنهم أغاروا علی دکتاتوريات عصرهم في حصون المال الذي لا يحصی ولا يعد واستلبوها ليطعموا کل ذي حاجةٍ ويبقون هم جياغُُ إلا مما يسند أصلابهم لمعرکة أخلاقٍ أخری ,ثم يتغنون بهذه القيم التي أقضت مضاجع الاستحواذ والبطش والغنی الفاحش الذي لم يترك للفقير يابس الخبز ليقتات عليه خشية الموت والهلاك .
في ذاك العصر تکالب الفقر والظلم والعُنجهيات علی إنسانها المسالم ,لکن العدة والعتاد التي جابهت جيوش الظلم لذاك الوقت هو المنتج العقلي الذي سار جنباً إلی جنب مع السيف وشجاعة القرار ,ولولا النوعية العقلية لما سمعنا بالشنفری ولا ابن الورد ولا تأبط شراً أو السليك السعدي إلی جانب نخبةٍ من رفاقهم من الصعاليك الذين خرجوا عن نظام القبيلة الأحادي الشخصية إلی قوانين أکثر عدلاً وأوسع منظوراً وأغلب فاٸدة لفرض العدالة الاجتماعية والاقتصادية وإعادة الرشد لعقول قادة مجتمع زمانهم ولو قسراً .
فالمحنة تلك تمخضت عن ولادة حالةٍ فکرية وأدبية تحدثت عن ذاتها وعن أشباهها ,وأرخّت لظروفها وأمکنتها ونحتت وجه إنسانها ,وخلدت قيمها وأسسها التي قامت علی إثرها ,وها نحن في زمنٍ أمرّ وأقسی من حقبة الصعاليك ,لکن أدوات النضال الفکري تکاد تکون أفقر من حال إنسان زمن الصعلکة فکراً وإرادةً وقرار,وروافد الحلول الراشدة أنضب من ماء واحةٍ تقادمت عليها فصول الجفاف واليباب .
في زمننا الحاضر الباٸس ,نری فقر الإنسان وعوزه واحتدام الطراد لحواٸجه والذي أسلمه لشيءٍ أدنی ما يسمی من مسميات سرعان ما ستندثر ,ألا وهي اللصوصية والاحتيال ,واحتراف کل دربٍ يوصل للربح والغنی السريع الذي أوقع دعاته الفقراء فکراً وقيماً إلی جانب فقرهم للمال ,إن يقعوا في شرك المحرمات والممنوعات من حدود الحشيش وحتی دهاليز الإتجار بالبشر والقتل وما شابه تلك الآلام البغيضة,لأن محنة هذا الإنسان لم تتکیء علی عصا الفکر بل اتکأت علی ظلال شعار ” نار الله ولا نار العبد” .
نقبل بشيءٍ ولو کان أقل رتبةً من الصعلکة ,وأصغر حجماً وتواضعاً من مسمی الصعاليك ,ولو کان من باب تغيير الأسماء لا التقليد ,بل ونقبل برجلٍ يقود هذه المرحلة الأحوج للعقل لا لقتل العقل ,ولو کان أقل سماحةً من عروة بن الورد ,وأخفض قيماً ونصحاً من الشنفری ,فيا حبذا لو تصعلصنا وکنا أقرب للصعلکة لا لصحراء اللصوصية العمياء القاحلة!

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى