الرحلة

الرحلة
خوله كامل الكردي

استقل الأب مركبته وبجانبه زوجته، والأولاد يجلسون في الخلف يمرحون ويضحكون ويصفقون ويغنون، الأب يضحك ويحاور زوجته ويروي لها حكاياته في العمل وذكريات ما قبل الزواج، يصل الأب إلى الحديقة، يخرج الأولاد ويركضون بين الأشجار ويتدحرجون على العشب الأخضر اللامع، الذي انعكست عليه أشعة الشمس، وبدى كحبات ألماس تتلألأ، تحضر الأم جلسة الشواء تفرش البساط وتعد اللحم وأسياخ الكباب، ينهمك الأب في إشعال النار في الموقد، تقطع الأم الخضار وتتربع كأنها في دارها، تشمر ساعديها وتعقد المنديل خلف رقبتها، وتبدأ بغرس الأسياخ باللحم قطعة وراء قطعة، تناولها الأب وبدوره يصف الأسياخ وقد هدأت ألسنة النار وصارت كامنة في قطع الفحم، فتبدو كحمم بركانية تضئ من تحت الرماد، تتحين الفرصة للانقضاض، تفوح رائحة اللحم المشوي في الأرجاء، تتجول بين أنوف الأولاد، يشتمونها ويرقصون من ابتهاج، يجذبهم دخان الشواء والأبخرة المتصاعدة من الأسياخ المتخمة بصفوف اللحم، ينساق الأولاد للرائحة والطعم والمذاق، يركضون على غير هدى، كعاشق متيم ولهان، يتجمعون حول الأب، وعيونهم جاحظة تحدق بأسياخ اللحم التي تأخذها الأم من يد الأب، تسحب الأم اللحم برغيف خبز ساخن، ويكانها تسحب ألباب الأولاد، وتضعها في وعاء كبير، كصائغ يخبأ مصاغه خشية السلب، يحاول الأولاد مغافلتها لعلهم يفوزون بقطعة ليسدوا شهوة اشتياق و طول انتظار، كقط يثب من حين لأخر لاقتناص لحمة من جزار، يتمكن ذاك الصغير من اختطاف قطعة، ويأتي آخر ليفوز بأخرى، تضربه الأم على يده بمغرفة أمسكتها بيدها تهديدا ووعيدا، تتناول وعاء اللحم وتضعه أمامها، شفقة عليه من بطون العيال، تراها كتاجر أحضر بضاعة وأودعها المخازن وأقفلها بقفل راسخ وأودعها صفوة الحراس، تمد السفرة بصحون المقبلات والخضار والخبز وصيد الشواء، يتداعى الجميع كجوعى في الأدغال، يأكل الجميع ويشربون ويحمدون الله، ثم يقفلون عائدين للبيت، وذكرى الرحلة تكبر معهم، وتتقلص إلى صورة احتفظ بها ذاك الصغير صاحب قطعة اللحم المخطوفة، يروي تفاصيلها لأبنائه والابتسامة تعلو محياه، آملا أن يعود الزمان للوراء ليتكرر مشهد الرحلة مرات ومرات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى