الحلُّ في السَّلامِ والحُب… وليسَ في السَّامِ والحَرْب

الحلُّ في السَّلامِ والحُب… وليسَ في السَّامِ والحَرْب

#ماجد_دودين

قبل (40) عاماً… صعدت سلّم الطائرة لأوّل مرّة في حياتي … سافرتُ على جناحٍ من النار والحديد… من قرية إلى قارّة … قرية عربيّة أردنيّة وادعة هادئة جميلة … الحبّ فيها عنوان والكرم يزيٍّن جبين كلّ إنسان… سافرت إلى قارّة العلم والحضارة والمدنيّة والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان – كما كانوا يسمُونها – حتى لقد قيل لي وأنا على وشك السفر بأنني ذاهب – حسب زعمهم – إلى جنّة الدنيا وفردوس الحياة:” الولايات المتحدة الأمريكية “.
وما هي إلا أيام قليلة هناك، وإذا بي أشعر وأحسّ وأدرك أنني في النار والجحيم لا في الفردوس أو النعيم … لقد وصلني إلى صندوق بريدي هناك كتيّب “تبشيريّ”مطبوع على ورق مصقول… يدعوني إلى الهداية و(الخلاص)… وقد صعقتني الإحصائيات المذهلة التي تضمّنها ذلك الكتيّب الجميل في مظهره وغلافه الجذّاب والذي يسرد الأرقام الدقيقة حول الانتحار والإدمان والإجهاض والأمراض… وبعد قراءة أول فقرة حمدت الله تعالى على نعمة الإسلام… على نعمة التوحيد … وكفى بالإسلام نعمة… وشرعت أدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الاستسلام لله تعالى الذي يقود إلى السلام والسعادة والأمن والأمان في الدنيا والآخرة.
أخبرني ذلك الكتيّب وقال لي كاتبه:” في ذلك المجتمع المتحضّر الراقي مادياً …المُنتكس والمُرتكس أخلاقيا؛ ينجح ما يزيد على (70) من بني البشر في أمريكا من بين ما مجموعه (700) إنسان يحاولون الانتحار كل يوم في وضع حد لحياتهم بالانتحار يومياً… وهل الانتحار نجاح؟! والغريب أن فئة الشباب teenagers (ممن تتراوح أعمارهم بين 13-19سنة) هم الذين يشكلون النسبة الأعلى بين المنتحرين… شباب من الذكور والإناث في عمر الزهور… مرفّهون ومنعّمون ومدلًلون أطلقوا الرصاص على رؤوسهم… وشربوا كؤوس السم مُتْرَعةً …وحار وتعجّب واستغرب علماء التربية والاجتماع والنفس والإنسان … وراحوا يبحثون عن السر …لماذا ينتحر الشباب والشابات؟! ولكن: لا تفسير ولا جواب!!
أقول: نجاحهم في الانتحار ليس نجاحاً بل يمثّل قمة الفشل والهروب واليأس والهزيمة …
ينتحر الآلاف من الشباب ما يزيد عن (25550) كل عام وفق إحصائيات العام (1983) … ينتحرون وهم يقرؤون المستقبل في عيون الأمهات والآباء … مستقبل مظلم حزين وكئيب… لذا يختارون الموت وكأنّه آخر وسيلة للنجاة في حياة لا روح فيها…لا سكينة ولا طمأنينة … حياة لا فرق بينها وبين الممات…
هناك في كل عام يقتلون أكثر من مليوني طفل بالإجهاض…يحكمون عليهم بالموت قبل رؤية نور الحياة … هناك انتشرت الأمراض الجنسية (الايدز والهربس وغيرهما) … الأمراض التي عجزوا عن علاجها… أمراض تحصدهم حصدا وتنتشر فيهم انتشار النار في الهشيم…هناك أكثر من (60) مليون مدمن على الخمر وأكثر من (1000) حالة اغتصاب يوميا أكثرها بين المحارم… هناك حتى النمل (الأحمر والناري) يحمل في أنيابه الصغيرة شبح الموت … وبترقُب ورهبة وتخبّط ووجل ينتظرون الموت الأكبر …
موت حضارة مادية لا أخلاق فيها ولا ارتباط لها بالسماء …حضارة ارتفع فيها كل شيء مادي وكَبِر.. بينما صغُر الإنسان وانحدر…ولا يمكن للإنسان أن يرتفع إلا بالسجود لله الواحد الأحد الصمد… الذي لم يلد ولم يولد … ولم يكن له كفوا أحد … الخالق جلّ وعلا الذي له كل صفات الجلال والجمال والكمال… الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) سورة الشورى).
وكيف يسجدون لله سبحانه وهم لا يعرفونه وينكرون وجوده… أو يعرفونه بصورة مشوهة لأنهم يجهلون وحدانيته وعظمته وعزًته وحكمته … أو يعرفونه حق المعرفة ولكنهم يُعرضون عن ذكره والاستسلام لأوامره ولهذا احتواهم الضنك وغلًف حياتهم الشقاء (… وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) سورة طه.
لقد قال أحد كبار كتًابهم مُكابرا أو جاهلا: ” إننا هنا في أمريكا قادرون على كل شيء. إننا لم نترك شيئا لله !!!” تعالى الله عمًا يقول هذا الجاحد المجنون المُعاند الكافر… لقد سألته:” هل استطعتم إيقاف الإعصار أو الزلزال أو البركان الذي أطاح بناطحات سحابكم وعماراتكم الشاهقة وأذاقكم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلكم ترجعون؟! لماذا تكابرون أو في جهلكم تعمهون؟!
(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ۚ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22) سورة السجدة.
إن العقلاء منهم اليوم ينقّبون بلهفة الظمآن عن البديل، وقد بات رجال العلم والفكر واللاهوت الذين يملكون ولو خيطا واحدا من خيوط الحكمة والعقل يدركون أن البديل الوحيد والمنقذ الوحيد والمخلص الوحيد للبشرية هو الإسلام: رسالة الوحدانية والمحبة والحب والرحمة والسلام والعلم والعقل والإيمان والعدل …وكل الفضائل والأخلاق المحمودة.
إن الإحصائيات تؤكد أنً أكثر من 20000 أمريكي يعتنقون الإسلام سنوياً …وقد صرّحت” هيلاري كلينتون” إلى صحيفة لوس انجلوس تايمز قائلة: (إنّ الإسلام هو الدين الأسرع انتشاراً في أمريكا وهو الهادي وركن الاستقرار للكثيرين من أبناء أمًتنا) أما صحيفة USA Today فتؤكد أنّ الإسلام هو الدين الأسرع والأكثر انتشارا في كل الكون …www.islam-guide.com ويمكن لكل باحث عن الحق والحقيقة أن يدخل إلى هذا الموقع ليقرأ ويتدبّر…
وهناك مجموعة ” من ليسوا معنا فهم ضدنا ” وهي مجموعة تتخبط في الأخطاء وتقود أمريكا الشعب الوادع الطيب إلى الهاوية والفناء والدمار بحجة الحرب على الإرهاب حيث تختلط المفاهيم فيصبح الاحتلال هو السلام والشرعية والحق … أما مقاومة الاحتلال والظلم والقهر والاستيلاء على أراضي الغير بالقوّة والإبادة الجماعية والفصل العنصري، والدفاع عن النفس والأرض والعرض فهو الإرهاب والعدوان والباطل!!
هذه الحفنة أنصحهم- نصيحة من يريد للبشرية السلام والسعادة والأمن والأمان – أن يقرءوا التاريخ؛ تاريخهم قبل تاريخ غيرهم…أن يعودوا إلى ما كتبه جون فوستر دالاس -وزير الخارجية الأمريكي الشهير في عهد الرئيس الأمريكي أيزنهاور وصاحب كتاب (حرب أم سلام)- وقد خصص فصلًا من كتابه بعنوان: (حاجتنا الروحية) بيَّن فيه ما ينقص أمريكا، فقال: (إن هناك شيئا ما يسير بشكل خاطئ في أمتٍنا وإلاً لما أصبحنا في هذا الحرج وفي هذه الحالة النفسية إن الأمر لا يتعلق بالمادّيات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، إنَّ ما ينقصنا هو إيمان صحيح قويٌّ، فبدونه يكون كلّ ما لدينا قليلًا. وهذا النقص لا يعوِّضه السياسيون مهما بلغَت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتُهم، أو العلماء مهما كثُرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوّتها).
لقد قالها الرجل بصراحة ووضوح: ينقصهم إيمان صحيح قوي… إنّ ما يحتاجه العالم بأسره هو الإسلام للقضاء على الإرهاب الحقيقي…لأنّ الإسلام هو الإيمان الصحيح القوي … دين الله الكامل… الدين الخاتم …الدين الذي يوازن وينسٍق بين الخطى في الإبداع المادي والاستشراف الروحي…دين (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) سورة الحجرات؛ وهو دين (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) سورة الإسراء ….
الإسلام هو دين كل الأنبياء بلا استثناء عليهم جميعا صلوات الله وسلامه… والإسلام هو الذي يقود إلى السلام والأمن والأمان والحب والجمال والتعايش السلمي، والحياة الحرة الكريمة لكل الناس بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم ولغاتهم …
أنا متفائل أن البشرية قادرة أن تكون أسرة واحدة متعاونة على البر والتقوى … تنبذ الإثم والعدوان … (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) سورة يوسف… ولن تستطيع أيّ قوة أن تطفئ نور الله وسيتم الله نوره ولو كره الكافرون … ولو كره المشركون… ولن يهبط دين عقيدته في الله سامية صافية ولن يعلو دين عقيدته في الله هابطة… (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) سورة التوبة.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) … سورة إبراهيم.

إنَّ المجتمع الغربيَّ المتوغِل في الحضارة الماديةِ اليومَ خسر تحقيقَ السعادة للبشريةِ، السعادة التي لا غنى في تحقيقها عن الوحي الذي أنزل الله على أنبيائه ورسله، والذي يوضح للإنسان طريقَها، ويرسم له الخططَ الحكيمةَ في كلّ ميادين الحياة في الدنيا والآخرة، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته.

الحضارة دون الوحي قدّمت للإنسان الغربي الوسائل ولم تقدِّم له الغايات، قدمت له الرفاهية المادية وحرمته السكينة الروحيةَ، منحته المادة وسلبته الروح، أعطته العلمَ وحرمته الإيمان، ناهيك عما صنعه أهل هذه الحضارة بغيرهم من الشعوب، لقد قتلَ الغربُ الآخرين ليحيا، وصنع من جماجمهم حجارة لبناء رفاهيته، وزخرف أبنيته بدمائهم، حضارة لم تجن على الإنسان وحده، بل على البيئة من حوله، فلوَّثتها بدخانِ مصانعها، وفضلاتها، وآثارِ إشعاعها، ونفاياتها النووية، وتدخُّلاتها الكيماوية في النبات والحيوان… وها هو العالم يشهد تداعيات ظاهرة التغيّر المناخي وآثارها الكارثيّة على البشريّة جمعاء.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) سورة الروم.
وقد حدَّد أنور الجندي مواطنَ الداء في هذه الحضارة فقال: (يكمن زيفُ الحضارة الغربية في مقاتلها الحقيقية وهي: قيامُها على الربا، ونسبيَّة الأخلاق، وموقفها الفاسد من المرأة والأسرة والمجتمع).
وأما واقع المرأة الغربية المُزري فحدِّث ولا حرج: كم عدد المغتصَبات يوميًّا؟! ومنهن من يُغتصبن من قبل آبائهن! وكم طفلًا يموت سنويًّا بين إجهاض متعمَّد أو قتلٍ فور الولادة؟! وكم شابة تحمِل سفاحًا كلَّ أسبوع؟! وكم عدد الشاذِّين جِنسيًّا؟! وكم جريمة سَرِقة وسطوٍ مسلَّح؟! وكم عدد المتعاطين للمخدرات؟! الإحصائيات تثبت تورُّط الكثير من المجتمع الغربي في مثل هذه الجرائم والآفات، وقد ذكرت أعلاه نقطة من بحر هذه الإحصائيات.

أيضًا من إشكالية الغرب حين خسر الوحي ضلالُه في مسألة العبودية، فالمجتمع الغربي يعاني من ظاهرة الوثنية التي هي أحطُّ مستويات التخلُّف، وكثير من دعاة المدنية المادية لا ينتبه لظاهرة الوثنية في المجتمع الغربي؛ كونه يعتقد أن الوثنية هي السجود لصنم فقط، بينما مفهوم الوثنية في القرآن أوسع من ذلك نتيجة سعة مفهوم العبودية، فإن الانصياع التام للهوى الشخصي واللذة الخاصة عبادة للهوى؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. وتبعًا لتأليه الهوى فإن الإنسان الخاضع لمتطلبات المادة خضوعًا تامًّا جعله النبي صلى الله عليه وسلم عبدًا للمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ… الحديث). الراوي: أبو هريرة | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري).
يقول الأديب الدكتور نجيب الكيلاني عن الحضارة الغربيّة: (وفي ظل هذه الحضارة تضعضعتِ القِيَم الروحيةُ للإنسان، وعاش الإنسان قَلِقًا حزينًا، وهو الذي تقلَّب على فراش مِن حرير!).
إن العدالة وحقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب لا يمكن أن تتحقَّق بدون مخاطبة الروح وتأنيب الضمير، فالإنسان القويّ بطبعه قد يعتدي على الضعيف دون رادع، وقد يُهلك الحرث والنسل، فالطغيان يفعل الأفاعيل، يقول د. طه جابر: “رغم أن الفكر الغربيَّ نجح في التقدم العلمي، فإنه قصّر في مخاطبة الجوانب الإنسانية في المجتمع، وأصبحت الحضارة الغربية قائمةً على صراع القوي ضد الضعيف، ويقول العلامة المجدد ابن باديس رحمه الله: “المدنيّة الغربية هي مدنيّة مادّيّة في نهجها وغايتها ونتائجها، فالقوة عندها فوق الحقِّ والعدل والرحمة والإحسان”.
لذا لا يمكن وصف من ملك هذه القوة والترسانة الحربية والتقنية الذكية بالصلاح دون الإيمان، فأي صلاح دون الوحي؟! يقول أبو الحسن الندوي: “إن فتوحات العلم الحديث لا يسع أي إنسان إنكارها، ولكنه عاجز تمامًا عن إنشاء أفرادٍ صالحين مؤمنين، وهذا أكبر هزائم الحضارة الغربية.
ولعلّ من أكبر أسباب الخلل عندهم خطأهم في مفهوم السيادة: يقول مارسيل بوازار: (إن السيادة حسب المصطلح الغربي تعني: سلطة وحيدة لا يعلَى عليها، تجمع كل النـزعات والقوى داخل المجتمع، وأما في العقيدة الإسلامية فإن الله هو المصدر الأسمى لهذه السيادة، والتعبير عن إرادته ماثل في القرآن، وليس للنبي ولا خلفائه والرؤساء الدينين أي سلطة إلا بالتفويض. ولما كانت الشريعة مفروضةً على الجميع فإن كل مؤمن هو خليفة الله في الأرض. وأولو الأمر في المجالين الروحي والزمني -الديني والدنيوي- لا يملكون سلطة مطلقة، وإنما هي في خدمة الجماعة لتنفيذ أحكام الشريعة، وليس في وسعهم أن يدَّعوا أي عِصمة في تفسير التوجيهات الإلهية؛ لأن هذه العصمة تكمن في إجماع الأمّة. إن الجماعة المسلمة لم تنشِئ أبدًا -لا نظريًّا ولا عمليًّا- حكومة دينية ثيوقراطية، كما زعموا ذلك في أكثر الأحيان بغير حق في الغرب. إن المصطلح ذاته -حكومة دينية- فيه مفارقة، فالخليفة ليس رئيسًا دينيًّا، وفوق هذا لم يحدث أبدًا أن حكمت المجتمع الإسلامي طبقة كهنوتيّة؛ لسبب واضح وهو أن الكنيسة مؤسسة غريبة عن الإسلام. فالحكومة الإسلامية ليست حكومة دينية حيث إن صلاحيتها الوحيدة هي تطبيق الشريعة الموحى بها. وهكذا تتميز السلطة هنا عن النظام الديمقراطي الغربي بالمعنى المتعارف عليه بوجه عام؛ لأنها تفرض نظريًّا بعض المؤسسات، كما تفرض عمليًّا عددًا من المعايير الأخلاقية. بينما تسمح الديمقراطية ذات الطابع الغربي أن يختار الناس المؤسسات والمعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم.
ومن أسباب ابتعادهم عن المعاني الروحيّة وانهماكهم في الماديّة توقّع معاداة الدّين للدنيا: يقول الفيلسوف البريطاني برتراند رسل في مقال له بعنوان: كيف أعاقت الكنائس التقدم: (قد تظنُّ -أيها القارئ- أنني أذهب بعيدًا عن الواقع إذا قلت لك: إن هذا لا يزال واقعَ الحال، فهناك طرق كثيرة جدًّا تتبعها الكنيسة في الوقت الحاضر لإنـزال البلايا وصنوف من العذاب التي لا داعي لها بمختلف أنواع البشر، وذلك بإصرارها على ما قد اختارت أن تسمِّيَه: الأخلاقيات. وكما نعلم جميعًا، فإن الكنيسة لا تزال في أغلبها تعادِي التقدُّم وكلَّ ما من شأنه تخفيف معاناة العالم، فهي قدِ اعتادَت أن تطبعَ مجموعة من قواعد السلوك المتزمِّت والتي لا علاقة لها بسعادة الإنسان، بما تسميه: الأخلاقيات. يجب علينا أن ننهض ونتدَّبر واقعَ أمر العالم، إن العالم المليء بالخير يحتاج إلى المعرفةِ ورقّة العواطف والشجاعة، إنه يحتاج إلى نظرة جسورة وإلى عقلٍ حرّ، إنه يحتاج إلى أملٍ في المستقبل. لقد عارضت الكنيسة جاليليو، وفي الأيام التي بلغت فيها أعظم سلطانها فإنها ذهبت إلى أبعدِ مدى في معارضة حياة العقل والتفكير، فلقد كتب البابا جريجوري الكبير (590م-604م) إلى أحد أساقفته رسالة يقول فيها: لقد وصلَنا تقرير لا نستطيع تذكّره دون حمرة الوجه خجلًا: ذلك أنك تشرح قواعد اللغة –اللاتينية- إلى بعض الأصدقاء).
لماذا يتقدّمون على المسلمين إذًا؟
بقاء القيادة والريادة عندهم اليوم هو بسبب أن غيرهم لم يأخذ بأسباب السيادة والريادة، وهذا تفسير وتحليل في منتهى الدِّقة، وهو من مفهوم قول الله تعالى: {وَلَنْ يجْعلَ اللَّهُ لِلكافِرِينَ عَلَى الْمؤْمِنينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].

فلم يتسلَّط الكفار في كثير من العقود على المسلمين إلا بسبب تقصيرهم، وقد استظهر العلامَة الطاهر بن عاشور رحمه الله ما يتبادر إلى الذهن من أوّل وهلة من تعارض هذه الآية مع واقع المسلمين اليوم، فقال رحمه الله: (فإن قلت: إذا كان وعدًا لم يجز تخلفه، ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصارًا بيّنًا، وربما تملَّكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد؟! قلت: إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصة فالإشكال زائل؛ لأن الله جعل عاقبة النصر أيامئذ للمؤمنين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، فلم يلبثوا أن ثُقفوا وأخذوا وقتلوا تقتيلًا، ودخلت بقيتهم في الإسلام، فأصبحوا أنصارًا للدين. وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخُلَّص الذين تلبسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنون على ذلك لما نال الكافرون منهم منالًا، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالًا).
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (ومعلوم أنَّ طغيان المادة على الروح يهدِّد العالم أجمع بخطر داهم وهلاك مستأصل، كما هو مشاهد الآن، وحل مشكلته لا يمكن البتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدًا).
ختامًا: العالم يعيش متاهات الانهيار …العالم يقف على شفا جرف هار …العالم في حالة انحدار…
العالم ينتظركم يا أهل الإيمان والإحسان والعدل والنور والخير لتمتطوا صهوة الحياة من جديد نحو مستقبل مشرق …لإنقاذ البشرية من الهلاك والإرهاب والظلم والعنصرية والدمار …
والعلاج في رسالة الإسلام … رسالة الحب والعدل والخير والهدى والنور والجمال والسلام.
(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) ۞ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) سورة الأنعام

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى