التاريخ معلم

التاريخ معلم
د. هاشم غرايبه

من شدة هوان الأمة في هذا الزمان، يعتقد كثيرون أنها تمر بأسوأ حال منذ نشأت قبل أربعة عشر قرنا، لكن المستعرض لتاريخها يجدها قد عبرت محنا أقسى، وتجاوزت أحوالا أصعب، ثم نهضت من بعدها فارتقت، ثم هزمت ثم انتصرت.. وهكذا فالأيام دول.
لعل أكثر ما يقارب المرحلة الراهنة هي فترة غزو المغول لها، فقد كانت الأمة آنذاك مفتتة بسبب الفساد السياسي، وانصراف الحكام الى اللهو والإسراف في الملذات، فيما تئن الرعية بفعل الجوع والفقر.
كان الهدف الآول للغزاة بغداد، فهاجموها بوحشية ودمروها بصفتها حاضرة المسلمين، ولتكون عبرة لباقي أقطارهم، وفعلا انهارت عزائمهم واستسلمت دمشق من غير قتال، فانكسر بذلك الجناح الآسيوي للدولة، وتهيأ بعدها المغول لغزو مصر تمهيدا لكسر الجناح الثاني وهو الشمال الأفريقي.
كان سقوط بغداد في شباط عام 1258 م، وبعدها بسنتين دمشق.
لم يكن سبب ذلك التفوق العسكري للمغول، بل تفرق المسلمين والتناحر بين الأمراء من ناحية ، والتحالف بين المغول والإمارات الصليبية التي كانت تحتل أغلب الساحل الشرقي للبحر المتوسط، من ناحية أخرى.
تحرك المغول نحو حلب وحاصروها، وقاتل أميرها توران شاه بشجاعة رافضا الإستسلام، وجَبُنَ ابن أخيه “الناصر يوسف” أمير دمشق عن نجدته، وبقي معسكرا بجيشه شمال دمشق، وما ان سقطت حماه، هرب مع كبار القادة، وترك المدينة لتسقط بلا قتال.
منذ عام 1253 والمغول يحاولون غزو الشام، لكن معظم محاولاتهم باءت بالفشل وإن كان لهم بعض النجاحات خلال سنوات من 1260 إلى 1300 ولكنها لم تكن تدوم أكثر من أشهر فسرعان مايتلقون ضربات قوية من المسلمين فيطردون من الشام.
فبعد معركة عين جالوت الفاصلة عام 1260 التي سحق فيها الجيش المصري بقيادة قطز المملوكي المغول، تشجع أهل الشام فجرت معركة حمص التي طرد فيها المغول من كل الشام.
ثم قام تحالف مؤلف من ملك إدوارد الأول (قائد الحملة الصليبية التاسعة) وحاكم ايران المغولي “أباقا خان بن هولاكو” عام 1271 بمهاجمة حلب وتدميرها مرة أخرى وتوجهوا الى دمشق لكن المسلمين هزموهم.
وفي عام 1279 عاد التحالف المغولي مع الصليبيين الذين هم مؤلف من جيش من الجيورجيين والأرمن، ليُهزموا مرة أخرى في حمص، وبعد عشرين عاما عاودوا الكرة وهذه المرة بمشاركة فرسان الهيكل تحت قيادة ملك قبرص، وبدعم من الموارنة في جبل لبنان.
لكن المعركة الفاصلة كانت في “شقحب” قرب دمشق عام 1303 والتي كانت بعد جهود مضنية بذلها ابن تيمية لإحياء العزائم واستنهاض همة المماليك، وبعدها توقفت حملات المغول.
من هذا الاستعراض الموجز، ومقارنه مع الحاضر، يمكننا استنتاج التالي:
1 – هذه الأمة مستهدفة من قبل الغزاة الطامعين، وأكثر من غيرها، ليس ذلك بسبب خيراتها، فكل بقاع الأرض عامرة بالخيرات، بل بسبب رسالتها التي كلفها الله بحملها لترسيخ العدالة في الأرض، والتي تتناقض مع مصالح البغاة والطغاة، وسيبقى همهم تجريدها منها.
2 – لم تتمكن الأمة في اية مرة من دحر الغزاة اعتمادا على اعتزازها العروبي، بل بانتمائها العقدي للإسلام، ومن كان لهم الدور الأكبر في رفع قدرها أغلبهم ليسوا قرشيين، فأهم العلماء والفلاسفة كانوا من وسط آسيا أو شمال أفريقيا، ومن حموها عسكريا كان أغلبهم من غير العرب: سلاجقة أو كردا أو مماليك أو أمازيغ، وهذا الانصهار بين مكونات الأمة لا يمكن تحقيقه بغير الإسلام، والمعتقدات البشرية لا يمكنها ذلك ، فالعقيدة الشيوعية لم تتمكن من توحيد المكونات القومية للاتحاد السوفياتي، والرأسمالية فشلت في تحقيق الوحدة الأوروبية.
3 – دائما ما يبدأ الأعداء بمهاجمة بغداد ثم عقر بيت الأمة الشام، والنجدة تأتي من مصر، ورأينا الأعداء يكررون هذا (السيناريو) في الحملة الصليبية الأخيرة (الحرب على الإرهاب)، لذلك واستباقاً للنجدة المصرية، نظموا انقلاب السيسي.
4 – لم يطرد الغزة في أي مرة بتصدي أمراء المقاطعات، فهؤلاء همهم الكرسي، بل بإحياء النفوس وشحنها بالجهاد، وهذا دور الدعاة المصلحين، فقد قدم “ابن تيمية”، وبعده بخمسين عاما “تاج الدين السبكي”، وبعدهما بخمسين عاما أخرى “ابن خلدون” أفكارا إصلاحية للحكام والعامة، كان لها دور هام في نهضة فكرية جهادية، مما حقق النصر.
نستخلص مما سبق، الوصفة الصحيحة لنهضة الأمة من كبوتها الراهنة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى