أمان في زحمة الحياة / محمد صالح العمري

أمان في زحمة الحياة

بدأ الضجر يتسلل الى نفسه الهشة و بدأت ضروب من الخوف تسكن في عقله و قلبه . كتم عن زوجته ما كان يشغله و بدا امامها متماسكا بقدر ما كان يستطيع أن يمثل هذا الدور . استغل إنشغالها بأمور المنزل و إنسل خارجاً من البيت الذي ضاق به و بهمه لعله يجد في الفضاء متسعاً يجلي به بعض همه . مشى في شارع القرية لعله يجد صديقاً يشكي له ما آلت اليه حالته . أو يجلس على قارعة الطريق أمام أحد الدكاكين ينفث دخان سيجارته . و لكنه إستمر بالمسير لا يحدد لنفسه وجهةً . دخل في شارع فرعي يخلو من الناس لا صوت فيه مشى به وحيداً إلى أن أوقفه صوت قرع أقدام تبدو كأنها لطفل ما جاوز السادسة . إلتفت حوله لم يرى أحداً . إستمر بسيره و صوت الخطوات يقترب التفت مرةً أخرى لا جديد وحده في الطريق بلا يقلقه سوى صوت تلك الخطوات . حتى إذا ما انتصف الطريق أحس بصوت الخطوات يسير بجانبه . و لكن لا أحد لم يعر إهتماما لهذا الأمر و أحس بأن تلك الخطى تسبقه فتبعها بلا إدراك ذهبت به يمينا و شمالا حتى وجد نفسه أمام بيت الطين الذي ترعرع فيه و أمه جالسة على عتبة البيت ترش العلف لفراخها التي لا تخطئ هذا الموعد . نظرت اليه أمه بإبتسامة إنفرجت معها بعض من أحزانه .
الأم : هلا يا ميمتي و الله كنت حاسه إنك راح تيجي اليوم . – و على غير العادة لم تبادر بالسؤال عن زوجته و أطفاله .
الإبن : هلا يمه شلونك و شو أخبار عيونك اليوم؟
الأم : يمه دام انت و اخوتك بخير اني بخير .
وقف بجانب أمه و أجال النظر حوله أعاد في مخيلته كتابة ما مضى . حوض النعنع و أشجار الزيتون في الوادي و البيت الشرقي المتهالك الذي حوله والده لبيت لأبقاره التي كان يدللها فالحمراء كان يناديها شقيره و السوداء يناديها نجيمه لوجود قطعة بيضاء في جسدها الأسود . و في غمرة إندماجه نادته أمه
الأم : إفطرت يمه ؟
الإبن : لا بعدني ما افطرت .
الأم فوت خليني أفطر أني و إياك.
نهضت الأم عن العتبة دخلت الى المنزل و اتجهت لغرفة خارجية و الابن يتبعها خطوة بخطوة كطفل يخشى الضياع في الزحام . دخلت الأم الغرفه و وقف الابن متكئاً على بابها .
أخرجت طبقاً مملوأً باللبن.
الأم : هظول اللبنات عملتهن أني خابرك بتحب اللبن الي بعمله .
صعدا الى المنزل و دخلت الأم الى المطبخ تحضر الفطور . و جلس هو على الفراش ينظر الى صور والده المتوفي كأنه يحاول أن يستنطقها كي تعطيه سبيل الخلاص مما هو فيه.
نهض مسرعاً و إتجه الى المطبخ .
الأم : شو يا ميمتي بدك اشي اعملك اشي ؟
الإبن : اه يمه بدي تسلقيلي بيض و تفتيه بزيت .
الأم ضحكت : عارف قديش الي ما عملتها يمه . من لما انت كبرت شو جابها على بالك.
ابتسم الإبن و عاد الى الصاله . بعد قليل أقبلت الأم تحمل الاكل على ( منسفة ٍ تبدو أبهى من قوس قزح ) يتوسطها طبق البيض الذي طلبه الإبن. ضحكت الأم عندما رأت ابنها و قد جلس على ركبة و نص .
الأم : مالك يا بنيي راجع لأيام زمان . هاي قعدتك قبل ثلاثين سنه .
ضحك الإبن : مش عارف يمه حاس حالي مشتاق لكل اشي.
اخذ الإبن رغيف الخبز و بلا شعور وضعها على ركبته . إنفجرت الأم ضاحكة و قالت : مالك اخوتك مش هون حتى تقربط بالخبزه لا يوخذوها منك زي زمان .
إبتسم الإبن و تناول إفطاره بنهم على غير العادة .
انتهى من إفطاره و قال : يمه بدي انام شوي .
الأم : هاي الفرشات عندك اتنقى و اتمدد.
مال الإبن باتجاه النافذة الغربية و تمدد أسفلها يتسلل منها هواء غربي ندي يراقص ستارة بيضاء خفيفة . غط في نوم عميق.
عادت الأم و لما رأته إبتسمت و أتت بغطاء خفيف وضعته عليه و هي تفول : هاظا مكانك يمه من قبل ثلاثين سنه . و دمعت عيناها و هي تقول : حاسه يا ميمتي بهمك نوم العوافي .
خرجت الأم من الغرفة و أغلقت الباب بهدوء و عيناها تغرق بالدموع و لسانها يلهج له بالدعاء.
أما الطفل صاحب الخطى قد عاد من حيث خرج و إستقر في وجدان الإبن .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى