أتدري أيها الموت ماذا صنعت؟ … هذه أمي / د. ظاهر الزواهرة

أتدري أيها الموت ماذا صنعت؟ … هذه أمي

د. ظاهر الزواهرة
سفرٌ هي الدنيا لمرتحلٍ، وتغيبُ شمسُ اليوم كلما حلَّ المساء، لا بد من وجعٍ وإن طالت سلامته، وللسفر الطويل نهايةٌ، ولو كنتَ في بروج مشيدة لأدركتك المنايا؛ إذْ لا تطيش سهامها، فالموت أقسا ما يفرق بيننا، وظننتُ أن الموت يرحم حالنا، حتى طالتْ يدُ المنية من أحبُّ، ورحلتِ يا أمي، وبقيتُ مثل السيف فردا، بقيتُ يا أمي وصرخاتي تصل المدى، وكلّ الذين ظننتهم قربي كانوا سدا، كثر الذين تناولوا الحلوى، ويوم مرضتُ ضاقت عليهم الأرض ولم يبقَ حدا، والدمع في عيني يصاحبني هو الخلّ الوفي.
لقد مضت التي ربت فينا العزيمة والرجولة، وغرست في قلوبنا جذور المحبة والتسامح، حتى مع الذين قسوا، ومضت الأيام الجميلة بقربها، فما كنتُ أحسب للأسى أو الحزن العميق أيّ حساب، وما كنتُ أعرف قبل موتك ما البكا، ولا موجعات النفس حتى توفتِ، وما كنتُ أشعر بالضعف كما بعدها ضعفت، وما كانت دموعي تشرق بي كما شرقتْ يوم ودعتُ الحبيبة، وفي الكفن الذي قيّد كلَّ سعادتي في لحظة واحدة.
أهذه أمي؟؟؟ تبًّا لكلِّ ثوبٍ أبيض بعد اليوم! وتبًّا لكلِّ سيارة تحمل الأضواء وتعلن موت قافيتي، وترسم لوحة سوداء في دفتر الحزن الذي نما معي.
أهذه أمي؟؟؟ قيّدها الموت بلا حراك؟ أمي التي كانت تذرع الأرض طولًا وعرضًا، أمي التي كانت تحمل على رأسها حقيبة مليئة، وفي يديها حقائب فيها لنا ما نبتغي، أمي التي لوّحتها الشمسُ وهي تخط للبطولة والتضحيات دروسًا عجز عنها الرجال، أمي التي حين مات أبي كانت أبي، وعوضتني فقد الأبوة في بواكير الحياة، ما أشعرتنا يومًا أننا ضعفاء، أو فقراء أو أيتام، أمي التي كانت مع الريح نخلًا أعجز الريحَ، ومضى الريحُ، وبقيت النخيل شاهقًا على الصمود والشموخ والخير، أمي التي كانت مع البرد دفئًا تضمني بين يديها الحنونتين، فمن يضمني اليوم يا أمي بيدين مثلها فيهما من الأسرار ما أعجز الكون الكبير؟ ومن يناديني يا ولدي تعال؟ ومن يرافقني “إلى فرحي كما كنتِ ترافقين؟ قالوا: كبرتَ، وأصبحتَ رجلًا، وهذه سنة الدنيا الخؤون، وأنا أقول: لقد أصبحتُ طفلًا من جديد يا أمي، وكلّ الدروب التي عرفت مسارها ضاعت، وتهت.
أمي التي كانت تناديني حبيبي، وتربتُ على رأسي حنانًا منقطع النظير، ماتت! أحقًا لن أراك بعد اليوم يا أمي؟ أحقًا لن أسمع الصوت الشجي؟ أحقًا سيأتي العيد وأعود إلى سريرك الخالي من القلب الحبيب؟ أحقًا سأقدر على إخفاء دمعي الذي ينزل الآن على ورق الكتابة جمرًا حريقًا؟ هل أستطيع؟ كم قالوا يوم ودّعتها – وبودي لا أودّعها- أنتَ رجل، لا تبكِ، وهل الرجال لا يبكون؟ قل يا علاء: هل الرجال لا يبكون؟ وهل: يُبكى علينا ولا نبكي على أحد، لنحن أغلظ أكبادًا من الإبل؟؟؟ قلبي قطعة من الحبّ رقيق، ولستُ من الذين قست قلوبهم أيها الموت، هل نظرت إلى جسدي وقد اكتوى بالحزن والألم؟ وهل رأيت عيوني التي لم تبخل عليّ من الدمع كما بخل الذين ظننتهم بلسمي الشافي، فإذا بعض البلاسم سمًا ناقًا!
أيها الموت: ماذا صنعت؟ لقد قطعت قلبي وطعنت، وخنجر الوداع فتَّ قلبي إلى كبدي، تراني وهنت، وساعة موت أمي ووداعها إلى القبر جر حزنًا زاد أضعاف أيام لبثت، فحزن ساعة الموت يضع حزنًا ينسي ساعات أفراح القبيلة يوم ولدت.
أيها الموت: ماذا صنعت؟ هذه أمي التي تسأل عني كلَّ يوم: أين هو؟ لماذا يا ولدي تأخرت؟ وتبقى في حيرة من الأمر، لا تصدق أنني في عمل، بل تخشى عليّ أني مرضت، وإذا مرضتُ أرى في عيونها الألم الذي لم يفارقها مذْ كنتُ صغيرًا، وهي ترعاني، وتقرأ عليّ المعوذات كي أنام قرير العين.
أيها الموت: ماذا صنعت؟ لم أعد أراها؟ هذه غرفتها تخلو من ريحتها العطرة، وحركاتها، وهذا سريرها مثلي حزين، وهذه عصاتها التي كانت تتكئ عليها قبل أن يعاندها المرض، وهدّها التعبُ القديم، حتى إذا جئنا إليها على سرير الشفاء في المشافي كانت تخفي عنّا وجعًا وألمًا، لو أصاب بعض الصخور يلين، فأمي تخاف أن نبكي ونتألم، وهي تتألم وتشعرنا بالفرح، وحين أسألها: ما بك يا أمي؟ كيف الحال؟ كانت ترد الجواب بنظرة كلّها أمل، وببشاشة كلّها شوق: أنا بخير، نعم يا ولدي أنا بخير.
أيها الموت: ماذا صنعت؟ أبكيتني دمًا، وجعلتني خائر القوى، لقد ضعفت، ولأول مرة أحسُّ بطعم الحزن سمًّا علقمًا، وأحسُّ بمرارة في الحلق مصدرها الدمع الذي يغالبني إلى خدي، وحلقي كأنّه تفرعن في المخارج، وتجمّد في العين جمرًا يلتهب.
أيها الموت: ماذا صنعت؟ أخذتَ أمي الحبيبة التي تزرع كلّ أعوامي ورودًا، وتهديني كلّ عام زهرة تسقيها من دموعها الثقال حبّـًا لنا، أمي التي وقفتْ أمام نوائب الدهر جبلًا يحتمل كلّ ما يكون، وتذللتْ نوائب الدهر، وصرنا قصةً في المجد والعلم، ومدرسة في الخلق القويم، ويأتي جاهل وأنا صغير، إذْ كنت الأول في صفي كما كل أخواني، ويقول: تربية امرأة! وصمتُ يومها لليوم، وأنا أقول في قلبي: ليت التي ربّتك يا سيدي مثل أمي امرأة؛ لتكون قادرًا على انتقاء الكلام، وتحسن لمن أساء، وتكون وحدك في النقاء!
أيها الموت: ماذا صنعت؟ غيّبتَ أمي من حياتي، ولا طعم لي بعدها بالحياة، لمن أقول لبعدها أمي؟ ومن ستحمل بعدها همّي؟ ومن تكون لي البلسم الشافي؟ ومن تزغرد لي إذا فرحت؟
أيها الموت: ماذا صنعت؟ ومن أخذت؟ أتعرف أنها ربتني يتيمًا صغيرًا حتى كبرت؟ وعلمتني رغمًا عن ظروف الوقت، وبقيت تساندني، وتزرع فيّ الههم حتى أكون أو لا أكون؟ وترفض في قاموسها معنى فشلت.
كانتْ كلّ فصل دراسي جامعي في اليرموك تطلب مني كشف علامات، وتعطيني دينارًا رسوم الوثيقة، وكنتُ أقول: ماذا تريد أمي من ورقة لا تعرف قراءتها؟ حتى عرفت أني جهلت أمام علمها وما تعلمت، كانت تزرع فيّ معنى الإرادة والنجاح، وتأخذ الورقة لمن يقرأ لها سجل العلامات، وتحفزني حتى نجحت، ولها اهديت أول كتاب ألّفت، فلمن أهدي كتابي القادم إذا كتبت؟
أتدري أيها الموت: ماذا صنعت؟ أبكيتني دمًا، وكلّ أحلامي قتلت، فهذه أمي المعلمة التي ترشدني إذا ضللت، فأيّ فرحة بعد موتها أبقيت؟
أتدري أيها الموت: ماذا فعلت حين غيّبتها عني؟ حدّق بوجهي ترَ الآمال ذاوية، ولدغات الأفاعي زيّنت جسدي، أنا لا أحتمل بعدًا لأمي، كلّا ولا لفراقها، وصورتها الأخيرة في عيوني لم تزل، ولم أزل أرى قبرها قطعة مني، ولولا خوفي من مخالفة العقيدة فعند قبرها بقيت، وما رجعت، فراحة غريبة أجدهاعند رأسها، ولولا إيماني بحكم الله ما صبرت.
أتدري أيها الموت: ماذا صنعت؟ لقد قسوت، لقد قسوت، لقد قسوت، هذه أمي التي كلّما شعرتُ بحزن إليها عدت، وأدمل رأسي بين كفيها، وتقبّلني حتى سعدت، فأيّ سعادة تأتي وقد رحلت، ولن تعود إلى البيت؟
آه ما أقساك أيها الموت! لقد قسوت عليّ مرتين، مرة حين أخذت أبي وأنا ابن ثلاث سنوات، وصبرت، حتى نسيت بفضل الله ثم أمي التي سدّت مكان أبي، ومرة حين غيّبت أمي في التراب، ولم ترحم قلبي المثخن بالجراح، فكبرتُ في أسبوع عشرات السنين، وتخيلت أنّ الحياة قد انتهت من مرّ ما تجرّعت، وها أنا أيها الموت بكلِّ ضعف أعلن أني قد استسلمت، ورفعت راية الموت رغمًا عني، فارحم ضعفي، وقلة حيلتي، ولا تفجعني فقد فجعت.
أيها الموت: أتدري ماذا صنعت؟ جعلت الرجال مثلي ومثل علاء يبكون! علاء أخي الذي لم ألتقه وتمنيت، علاء أخي الذي من وجعه توجّعت، فجئت أيها الموت تقطف زهرة عمرنا وما تراجعت، وما أبقيتَ لنا فرحة العيد، ليتك بعد العيد أتيت! فما أصعبَ العيد بلا حبيب في روحه كنت! وما أصعبَ العيد حين يعود المصلون إلى أحبابهم إلا أنت! وأنت الوحيد بلا حبيب عدت.
آه يا علاء، كان لي أملٌ، ولك أملٌ، وكلّنا أملٌ أن تحيا آمالنا عمرًا مديدًا، مثل الياسمين، ينمو ويكبر، ويفوح عطرًا، ويشهد كلّ أفراحنا في الحياة، ونطير مثل الفراشة فرحًا بقدوم الربيع، فجاء الخريف على غير موعد، وأسرع مما نظن، وتلونت حديقتي لونًا أصفر، وسقطت أوراق العنب قبل الأوان.
آه يا علاء، والآه لا يعرفها إلا من أضناه الفقد، وذاق مرَّ الفراق جمر الغضا، فقد كنت كلّما صعدت درجة المنبر دعوت الله أن يشفي أملي وأملك، وأن تعود الحياة كما نريد، وتعود الابتسامات إلى ثغورنا؛ لكنّها الحداثات، كانت ومازالت أقوى من آمالنا، فنحن ضعفاء، لا نملك ردّ الضر عنّا، فكيف الموت؟
لقد غادر الأحباب يا أخي ورحلوا، وبقيتْ حسرة في القلب كل يوم تشرق، وكأنّ قلبي عند كلّ مصيبة عظم تكرر صدعه فتهيضا، ليتني يا أخي كنتُ قادرًا على فعل شيء، ما أستطعت، ومن أنا ومن أنت؟
في القبر يأمي تسكنين عنّي، فيا ربِّ اجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وصبّرني على فراق من أحببت، وسأزور قبرك يا أمي والحبيب يزار

  • د. ظاهر محمد الزواهرة – الجامعة الهاشمية.
    • باكيًا من شرفة منزلي صبيحة العيد: الخميس، 13/5/2021م، الساعة : 3:26 فجرا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لله درك يا زواهره .. ماهذا الالم الذي يحمله قلبك على فراق امك .. الله يتقبل امك ويرحم الوالده وجميع موتى المسلمين! اجمل ما قرات على العيد! بالتوفيق والى الامام يا دكتور .. تذكر: “انك ميت وانهم ميتون”، وفي الموت راحه!

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى