“أبو محمد”.. عُمرٌ من الكدِّ والجدّ / احلام الزعبي

“أبو محمد”.. عُمرٌ من الكدِّ والجدّ


كان يصحو باكراً على رائحة خبز الطابون وصوت أمه تناديه ليغمس خبزها في لبن الاغنام ويستلذ بشايٍ غلته على الحطب… رغم شح الموارد وضيق العيش كانت السعادة صاحبة الحصة الاكبر في نفوس الناس قديماً.. على “قلّاية البندورة” و “شورية العدس” نضج ابو محمد علي العزايزة صاحب الثمانِ عقودٍ ونصف.
من بيوت الطين وألعاب الاطفال التي لا تتجاوز أدواتها بعض الحبال والحجارة مجيئاً للملابس المخاطة يدوياً من أرخص انواع القماش .. حياة بسيطة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى رغم مختلف الصعاب إلا أن مدينة الرمثا لا يفارق حب الحياة أهلها بما فيهم أبو محمد.
هذه المدينة التي اعتاد أهلها أن يَربى أبناءهم في كنف كبار السن يغرفون من ينابيع حكمتهم وخبراتهم ما يجعلهم قادرين على تحمّل المسؤولية في مقتبل العمر.. فقد بدأ ابو محمد العمل منذ سن السادسة في الحصاد بعد وفاة والده ليكون واخوه الوحيد سندا هذه العائلة .. وبعد سنوات انضم لصفوف الجيش العربي تحديدا فرقة المشاة براتب وقدره 6 دنانير .
يمسح على كفّه الذي تكسوه التجاعيد ويعود بريق الفخر لعينيه ناظراً في وجهي بحب .. أما عن الكرامة يا ابنتي وقد كانت ابتسامته تظهر اسنانه المتآكلة … كنت سائق سيارةٍ انقل الذخيرة بين خطوط الدفاع برشاقة ومشاهد تقييد اليهود واخذ اسلحتهم ودباباتهم وأسرهم لا تتوقف …
ابو محمد وقد اقترب من بلوغ عقده التاسع الا انه يملك ذاكرة حيّة يتصور المشاهد كما لو انها حاضرة امامه .. توقف معلناً حاجته لاشعال سيجارة .. يحملها بيدٍ ترتجف قليلا ويعتصرها بين شفتيه بحرارةِ شوقه للايام الخوالي ، فينفث دخانها ويكمل …
كنا ننام على ظهور دباباتنا تحسباً لأي طارئ ولا مجال لخلع بدلة “الفوتيك” او اشعال اي مصدر ضوء في المعسكرات ..عشنا تعبنا لذيذا في سبيل الوطن .. مواجهاتنا مع العدو وخسارتنا للشهداء ما هي إلا سقاية لأرض الوطن ليزيد فخراً وامناً وسلاما .. وكما عودنا “ابو عبدالله ” أُعلن 21 آذار يوم النصر .
ثنى ابو محمد عقب سيجارته وضحك بصوت عالٍ واتسع بؤبؤ عينيه فاضحاً شوقه وفخره ،فيحرك يده منبهاً بدأه بقصّ مغامرة له اثناء الخدمة العسكرية ..
يقول : كنا ذات مرةٍ انا وزميلي بعد غروب الشمس بسويعات نحاولعلى طريق اربد الرمثا ايجاد سيارة تقلّنا للمنزل ..واذ برجل متثلم ب “شورة بيضاء” وملابس رثّة يتوقف ويطلب أن نركب معه ليوصلنا لمنازلنا، وما ان ركبنا حتى بدأ الرجل يستسفر عن سبب وجودنا في مثل هذه الساعة هنا فأخبرته بأننا أنهينا وظائفنا وبدأت الإجازة ، يرد بلومه للجيش والملك الحسين على هذا التأخير ،غضبت وطلبت منه أن ينزلنا بعدما عاتبته على ما قال، هدأني وأكملنا الطريق..
عم الصمت حتى وصلنا لنقطة تفتيش في منطقة جابر ولم اجد الجنود الا مؤدين التحية للرجل المثلم الذي معنا ذُهلت واذ به الملك الحسين نفسه فمن عادته التخفي لمعرفة احوال شعبه واواضاع البلاد ،اعتذرت لعدم معرفتي اياه وظننت ان الموقف انتهى بوصولي للمنزل حتى جاء كتابٌ بعد اسبوعين يطلبنا لمقابلته جلالته ،فظن قائدنا اننا ارتكبنا جرما، قيدنا وذهبنا للقصور العامرة مكبّلين ..
اساء منظرنا مقيدين بارجلنا وايدينا جلالته فأمر بفك قيودنا واجلسنا بجانبه، شكرنا وأثنى على امانتنا وما زلت اذكر نبرة صوته الفخورة “يا ليت كل الجنود مثلكم” وكافأنا بمبلغ مالي واجازة لمدة شهر،لن انسى يده التي ربتت على كتفي كأمٍّ حنون ..
المشاق لم تنتهي هنا فقد سقطت على قدمَي دبابة أثناء المناورات والحمدلله لم اصب بجروح بالغة ومن ثم تنقلت ما بين الزرقاء والشمال ورام الله وغرب القدس لتنتهي ثلاث عقود وبضع في الخدمه العسكرية لاعود ذلك الخمسيني الذي اصبح ابا ل11.
احدى قصصه يرويها بحبّ وانفعالٍ شديدين حول ما شهده في “حرب الفدائية “.. من المعسكر في ايدون متواصلا وزملائه مع ضابط الملاحظة القابع في الجامع العمري في الرمثا ، وتحركهم والملك الحسين بن طلال في طائرته الحربية ، كان عليهم التصدي للقذائف التي تنزل في احياء الرمثا بعشوائية ….،قالها بغضب وصمت لبرهه ..انتهت الحرب وانتصرنا …

يشعل سيجارة أخرى بهدوء … بعد الجيش اتجهت للعمل في قطاع النقل بالشاحنات كنا ننقل حجر البناء من العراق للكويت والعكس يوميا وبقينا على هذا الحال حتى دخول صدام حسين الكويت وبدء الحرب فاتجهنا لنقل اللبنانيين من العراق للبنان وحال البلاد يصعب خاصة بعد النكسة وحرب حزيران وازدياد الوافدين من مختلف الجنسيات .. “والسيجارة تشارف على الانتهاء”: أصبحت الحياة اصعب واغلى .
شبّ ابنائي “بابتسامة ” فبدأت اشتري الدونومات لأبني لهم بيوتا وازوجهم الأمر الذي دفعني ان انفق مدخراتي و اعود للعمل على صهاريج نقل النفط الى العقبة والزرقاء لخمس سنوات بعدها تنقلت ما بين الوظائف المختلفة لتأمين لقمة العيش .. وفي اواخر التسعينات اشتريت باصاً صغيرا برخصة عمومية لنقل الركاب في المنطقة حسب الطلب .. وعملت عليه حتى قبل عام .. زوجت ابنائي وها انا الآن اعيش وحولي احفادي الذين تجاوز عددهم العشرين .
ابو محمد مثال الرجل المكافح ينهي حديثه بتنهيدة أسفٍ على حاضرنا وحنين للماضي الذي لن تكفي صفحات جريدتنا هذه لذكر تفاصيله .. ينهيه وحنينه الى خبز أمه تترجمه دمعة شوق من عينينه الزرقاوين كالزمرد وتجاعيد وجهه تكفّلت بالشرح …
وها هو عقب السيجارة الثالثة على التوالي يُثنى وينطفئ …

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى