مبتدأ وخبر

مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه

المبتدأ: كنا ونحن طلبة نرتاد مطعما شعبيا متواضعا بلا لافتة، كنا نطلق عليه اسم صاحبه (أبو حقي)، كان المطعم الوحيد في الحي الذي نسكن فيه، لذلك فقد كنا مجبرين على ارتياده رغم أن النظافة فيه كانت تعتبر ترفا غير لازم، إذ كان (أبو حقي) يحمل على ذراعه ممسحة هي فوطة مبللة، يمسح بها كل شيء: الطاولة بين زبون وآخر، وإن اندلق طعام أو شراب يمسحه بها، لذلك كانت عيوننا متعلقة بها إشفاقاً منها، كونها مشبعة بكل النكهات، وعندما تصبح مقرفة فتلوث أكثر مما تنظف، كان يلقي بها في سطل الماء الى أن تتحلل الأوساخ منها بقوة الجاذبية وليس بفعل مساحيق التنظيف، ينفضها مساء ويعلقها على الحاجز حتى تجف ليلا، ليعود فيستعملها في اليوم التالي.
كانت لديه ثلاث فوط، اقترحنا عليه ابقاء واحدة منها نظيفة، لاستعمالها في مسح الأشياء الهامة التي لا يمكن تقبل تلوثها كالملاعق والأكواب، فلم يستجب، لذا لم يمض وقت طويل حتى قاطعه معظمنا، فأغلق المطعم.
الخبر: تحتفل الدولة الأردنية هذا العام بمرور مائة عام على تأسيسها، واحتفالا بهذه المناسبة فاجأت الحكومة شعبها بهديتين مع بداية العام الجديد، الأولى رفع أسعار المشتقات النفطية والثانية حل نقابة المعلمين وسجن مجلسها.
جاءت المكرمة الأولى لتعوض شهرين متتالين حرمت فيها الدولة من رفع الأسعار كون اسعار النفط كانت تتراجع عالميا باستمرار وبنسبة كبيرة، لدرجة اضطرت فيها الحكومة لتخفيض سعر بعض المشتقات مرتين، لكن ذلك كان رمزيا وبنسبة خمسة فلوس، وما أن توقف نزول الأسعار وعادت الى نصف ما كانت عليه، فرحت الدولة فعادت الى عادتها القديمة برفع الأسعار كل شهر، فبدأت بضربة قاصمة برفع السعر ستة أضعاف ما خفضته فعوضت ما حرمت منه الشهرين الماضيين دفعة واحدة، معتقدة أن الأردنيين لا يقرأون ولا يعرفون الأسعار في الدول الأخرى.
المكرمة الثانية كانت بحل نقابة المعلمين، وعقاب مجلس النقابة على ممارسة حقه القانوني بالإضراب، وكان الالتزام به مقلقا للأجهزة الأمنية التي فشلت في كسره، كما أن السجن جاء انتقاما من كشفهم علانية بعضا من فساد المتنفذين.
لقد كان بإمكان الحكومة أن تتخذ قرارا عرفيا وتبرره كالعادة بأنه لأجل المصلحة العليا، لكنها جرّت معها القضاء الذي كنا نعول أن ينأى بنفسه عن مخالفات الحكومة للدستور والقوانين.
لقد سألت مختصين قانونيين في قانونية حل النقابة فكانت الإجابة: ان نص المادة (27) من قانون نقابة المعلمين تحدثت عن حل مجلس النقابة ولم يتم التطرق لحل النقابة، ذلك أن النقابة قامت وفقا لتشريع ولا تنتهي الا بالطريقة ذاتها أي بموجب تشريع.
والعرف التشريعي أن القانون الخاص مقدم على العام، لذلك فاللجوء الى قانون العقوبات هنا غير جائز أصلا.
ومع ذلك فإن النصوص القانونية التي تجيز حل الهيئات المعنوية (كالنقابات) حددت شرطين لازمين معا في نصوص المادتين (36 و 37) من قانون العقوبات وفقا لما يلي :
1- المادة (36) ارتكاب مديرها أو أعضاء ادارتها جرم يعاقب عليه بالحبس سنتين على الأقل .
2- توافر حالة من الحالات المنصوص عليها في المادة (37) من قانون العقوبات.
ولما لم يمكن تجريم النقيب والمجلس وفق المادة 36، فقد استند الحكم على المادة 37 فقط، وكان بتجريمهم وفق ما يلي:
1 – جرم التأثير على حرية الانتخاب: والعقوبة وفق المادة 57 من قانون الانتخاب لمجلس النواب هو 6 أشهر حبس أو 500 دينار غرامة.
2 – جرم التجمهر غير المشروع: و العقوبة وفق المادة 165/1 و2 من قانون العقوبات هو الحبس اسبوع او الغرامة 25 دينار.
3 – جرم تشجيع الغير بالخطابة او الكتابة للقيام بأعمال غير مشروعة: وحد العقوبة وفق المادة 161 من قانون العقوبات هو الحبس أسبوع.
وبناء على ما سبق، فيغدو القرار المتضمن حل نقابة المعلمين مفتقرا الى السند القانوني، وأعتقد أن محكمة الاستئناف ستبطله.
القضاء الأردني معروف بنزاهته، وبقاؤه نظيفا أساسي لثقة المواطن بدولته، نأمل من الحكومة أن تدرك أن هنالك أشياء كثيرة جميلة في هذا الوطن، فإن كان كثيرون يقبلون لأنفسهم مهمة ممسحة الزفرة.. فيجب ابقاء فوطة واحدة على الأقل نظيفة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى