لماذا سافر عمر؟!!
وطني كما أب يتألم.. ألم كبير يصيب نفسك حين تبحث عن أولادك فلا تجدهم…!!
علمك أنك أنجبت لسببين: أولهما أن تعمر الأرض كما أراد لها الله تعالى، والثاني أن تجدهم حولك حين تضعف ساقاك وتخور قواك وتمسي الكحة والأدوية جزءا من حياتك، أن تجدهم حولك حين تسد جميع إحتياجاتهم وتقوم بواجباتك كأب، ثم تجلس على عرش الإكبار والإحترام لتطالبهم بإيفاء ديونهم لك.. حان وقت الراحة !!
أن تنجب يعني أن تزرع في زمن الكدح والعمل، لتجني في زمن الحاجة، أن تنجب يعني أن يكون لحياتك هدف.. لا يوجد عطاء بلا إنتظار للأخذ، قل هذا لكل متحدث عن الأبوين وكأنهما آلات جاءت لتخدم النشء وترحل لا تلوي على شئ..
أن تنجب يعني أن تعطي حنانا فتجني فرحا
أن تنجب يعني أن تعلم حرفا ليقرأوك كتابا
أن تنجب يعني أن ترعى خلقهم ليرعوا مماتك
أن ترعى المهد ليبكوا اللحد
في زمن حلت فيه الآلات محل البشر وظيفةً وتوظيفا.. يئن الوطن من بطالة أولاده، هؤلاء الذين جاؤوا على أيدي آبائهم ليلومونهم على النشاط الدنيوي الذي تمارسه الكائنات كافة.. من الأميبا أحادية الخلية حتى الحيتان الزرقاء، كم هو شعور مؤلم حين تقف أمامك بذرتك التي غرستها في محبوبتك يوما لتلومك على أشياء لم تقترفها !!.. أو أن تشق تلك البذرة طريقها في الحياة تاركة تلك القلوب الملوعة خلفها !!.. الأب ينجب نسخا متفاوتة النجاح، فمن ينجح لا يشكر ومن يفشل لا يعذر..
الفاشل يغدو جحيما يطارد يقظتك وأحلامك.. هناك فرع من الشجرة التي قضيت عمرك تسقيها سيقع !!.. تجاهد بكلتا يديك علك تسنده، تكلم أصحابك القدامى.. معارفك.. مسؤولا إنتخبته يوما وأوصلته ليخدم أهل مدينته !!.. لا أحد يستمع إليك.. الولد في طريقه لأن يضل سبيله، بالأمس مررت بحجرته فسمعت صوته ينشج، راقبته من فرجة الباب الموارب فوجدته ينظر لصورة على الكومود المجاور لفراشه، صورة لفتاة جميلة كالحلم ذات غمازات.. إسمها أمل !!.. يا ولدي.. أما وجدت – في زمن اليأس – إلا أمل لتحبها ؟!!
كيف يفوز بها ولدك وهو عاجز عن فعل شئ؟!!.. أنت أيضا عاجز عن فعل شئ !!.. البلاد في محيك.. الحزام الذي شددته على خصرك – تبعا لنصائح المسؤولين – بات يخنقك !!.. يا ولدي ماذا بيدي لأفعل ؟!!
وتفتح التلفاز وتقلب الجرائد اليومية الشائعة تبحث عن أي خيط يوصل إلى صالون أمل.. أي كلمة يقولها ساعٍ يعمل في ردهات المطبخ الإقتصادي للبلاد لصحفي متدرب، أي شئ يعدك بغد أفضل، فلا تجد سوى كلاما مبهما لمسؤول ما لا تفهم منه شيئا.. ثمة صورة لمسؤول كبير أيضا يتحدث ملء أشداقه حول الخطة العشرية…!!
خطط عشرية !!
أي خطط عشرية ؟!!
خطط عشرية.. وأنت بعد لم ترقع شقوق سنوات خلت ؟!!
هل هي خطط عشرية لحماية الفاسدين أم لتهريب أموالهم ؟!!
خطط عشرية !!.. هذه كلمة كان يجب أن تنقرض منذ زمن، لكنها أضحت من المصطلحات التي تقولها لتبرهن أنك مسؤول مثقف رغم فشلك !!.. كلهم يستعمل كلمة “أولادي” أيضا، وهذا طبعا ليأكدوا مسؤوليتهم عنك كآباء.. كنت لتصدقهم لولا أنك تعرف أولادهم واحدا واحدا !!.. أولهم رسب في كبرى جامعات أوروبا وعاد بشهادة مزورة ليتقلد مناصب ما أنزل الله بها من سلطان !!.. والثاني غارق في المخدرات “السينييه”.. لذلك تم تعيينه كمدير لوحدة عملها أن تنتج للوطن ديونا جديدة، والثالث فوق العادة…!!
أنحن أولادكم ؟!!.. نحن الذين عتقنا الزيت في الخبز مع رشة زعتر لسنوات ولم نعرف طعم الهمبرجر !!.. كيف نكون “أولادكم” يا سادة…!!
هنا يأتي دور حقائب السفر.. تلك الأشياء المضلعة التي تشبه شواهد القبور في كل شئ، فهي إنهاء لحياتك في مكان ما، شئ ينعى للناس أن عمرا كان هنا… ولم يعد !!.. ضحكة كانت تضج البيت.. لكنها غادرت إلى غياهب بعيدة !!.. حقائب السفر ممهور إسم صاحبها على وجهها كي لا تتوه بين رحلات الطيران العملاقة التي تصل الشرق بالغرب وتبعدهما في آن معا، حقائب السفر شئ يرافقك في رحلتك الأسطورية من الأرض إلى السماء، وحين تعبر الفيافي والمحيطات وتبتعد شيئا فشيئا عن تلك القلوب الملوعة التي تركتها وراءك، تهبط بك ثانية من السماء للأرض، تنزل عن متن الطائرة لتجد الحقائب بإنتظارك، تخرج لتبحث عن سيارة أجرة في بلاد غريبة وأنت تدفع أمامك حقائبك، تدفع أجرتها كما تدفع أجرتك، وتاليا.. ستحتل معك فراغ حجرتك وستغدو جزءا من الموجودات حولك…!!
تعمل وتكدح وتعاني ما يعانيه كل غريب في أرض لم تخلق له
لتعود وقد أمست قلوب إنتظرتك طويلا خلف شواهد أخرى بيضاء حقيقية
تعود وقد رحلت أمل إلى بيت زوج إستحقها حين تركتها أنت
تعود لتشتري شقة من مئة متر حلمت أن تعمرها بصغار أمل وصغارك
تعود لتكتشف من فورك أن سعر السيارة ليس هو السبب الوحيد في جعلها حلما لمن هم مثلك
تعود بحفنة نقود تعينك في رحلة علاجك لأمراض إكتسبتها في غربتك عن جدارة، كأنك كنت هناك تجمع النقود والأمراض والذكريات وتعتقها لوطنك الذي يغص بالمسؤولين والمسؤولين والمسؤولين، وثروات بشرية أضحت بالإهمال… أنصاف البشر !!!