عبدالباقي جمّو… الأردني الذي رفض رئاسة الشيشان

سواليف

سيذكرُ التاريخ أنّ رجلاً رفض رئاسة جمهورية عُرضت عليه من دون أن يخوض حرباً لتسلّمها، أو يشارك في انقلاب عسكري على حكّامها، أو يتزّعم حزباً قوياً فيها. فعل ذلك الأردني من أصول شيشانية، عبدالباقي جمّو، الذي توفي، الأربعاء الماضي، مواطناً أردنياً وهو الذي كان باستطاعته أن يموت رئيس جمهورية أو، على الأقل،ّ رئيساً سابقاً لجهورية الشيشان أنغوشيا التي طُلب منه، رسمياً، تسلّمها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكنه رفض قائلاً حينها: “حفنة من تراب الأردن تساوي عندي الدنيا كلها”.

ولد جمّو في مدينة الزرقاء (20 كيلومتراً شمال شرق عمّان) عام 1924، من والدين شيشانيّين من أفواج المهاجرين من القوقاز، هرباً من تزايد نشاط البلشفيين الروس ضدهم. مات في هذه المدينة كهلاً بعدما كبُرت معه وأمام عينيه المدينة، التي أحب، حتى أصبحت مليونية وهي التي كانت يوم ولادته قرية لا يتجاوز عدد سكانها مائتي نسمة.

تلقى جمّو تربية شيشانية صارمة، عمادها التفقه بالدين، الذي كان يعتبره السبب الرئيسي لهجرة آبائه إلى البلاد العربية والإسلامية، وهو الذي كرر “هاجر آباؤنا إلى هذه البلاد للتفقه في الدين والبحث عن الحياة التي لا تلهيهم عنها أعمال الدنيا”. لهذا الهدف لازم في طفولته أحد المشايخ لتعلم الفقه والشريعة. التحق بعد حصوله على الشهادة الثانوية بجامعة الأزهر في القاهرة، وحصل على شهادتَي البكالوريوس والماجستير في الشريعة الإسلامية، وعاد إلى مدينته ليصبح إماماً وخطيباً لجامع الشيشان، ومن بعدها مأموراً للأوقاف في المدينة.

خاض غمار الحياة السياسية ممثلاً عن الأقلية الشيشانية، ومتّكئاً على جماعة “الإخوان المسلمين” التي تقلّد فيها عام 1956 منصب نائب مراقب “الجماعة”، وهو العام ذاته الذي حجز فيه مقعده الأول تحت قبة البرلمان الذي أصبح غيابه عنه نادراً حتى عام 1993. اعتزل الحياة السياسية بعدما أخفق في الانتخابات البرلمانية عام 1997.

لم تدم علاقة الرجل طويلاً مع جماعة “الإخوان المسلمين” التي غادرها عام 1959 إلى غير عودة، بعدما اعترض على نهجها، وهي اعتراضات لم يبح بتفاصيلها حتى وفاته، كما أنّ مغادرته لم تمنع “الجماعة” من نعيه واحداً من رجالات الأردن والمؤسسين الأوائل لـ”الجماعة”. أمضى في الحياة السياسية 45 عاماً، إضافة إلى عضوية البرلمان، شغل منصب الوزارة مرتين، واختير عضواً في مجلس الأعيان (مجلس الملك). بعدما غادر السياسة حافظ “الشيخ”، وهو اللقب الذي كان يرفضه بقوله “هذا وصف لمن بلغ رتبة أهل الفضل وهو ما لم أبلغه”، على عمله في الخطابة بقدر استطاعته، كما تفرغ لمتابعة شؤون المدرسة والجمعيات الخيرية التي أسسها.

في سنواته الأخيرة، عانى جمّو عزلة قاتلة بعدما توفي جميع أبنائه، وأصبح العالِم، المعروف بتواضعه وحنكته السياسية وديناميكيتيه بين قومه الذين نصّبوه زعيمهم، يقضي أيامه في مصارعة النسيان من خلال إعادة قراءة الكتب. جمّو الذي رفض يوماً رئاسة بلاد الأجداد، أطلق آخر أيامه دعوة إلى العودة محرّضاً على هجرة معاكسة إليها. قال الشيخ لـ”العربي الجديد”، قبل أكثر من عام: “هي هجرة للبحث عن الكرامة هرباً من التمييز، الذي لا يزال يمارَس على الشيشان، الذين لا يزالون في نظر الدولة أقلية وقومية مختلفة”.
(العربي الجديد)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى