جلب المصائب وإخفاء الحقائق.. مِن “كوفيد-19” إلى “إتاوة-19”

جلب المصائب وإخفاء الحقائق.. مِن “كوفيد-19” إلى “إتاوة-19”
محمد امين المومني

     مِن رُشدِ آذار إلى جُنون نيسان، ومِن حنانِ الشتاءِ إلى جَورِ الربيع، وبينَ مودةِ الأمسِ و مكرِ اليوم، ومِن (كوفيد-19) إلى (إتاوة-19)، ثمَّة انفصامٌ في شخص كل عاقلٍ على ما بدا؛ وعلى الذي يبدو، فبادئ البدء لم يكن كنهايته، وأول الأمر ليس كآخره، فقد أصبحوا على حُبٌّ ومودة، وأمسوا وقد انقلبَ المُنقلبِون على عقبيهم ومكروا مكرهم.

     ما جرى فعلاً هو تعجيلُ الأزمة الثانية بعد الأزمة الأولى “كورونا” وإطالة عمرها، فما حَدَثَ سيكون بمثابة تزامنٍ لأزمتين لا أكثر، و استقدام ما كان مُؤجل وحتمي حين انقضاء الأولى، وسيكون ذلك حرفياً بالقشة التي قسمت ظهر البعير، وبداية النهاية له.

     جعلوا لنا حلاً يستحيلُ الوصول إليه ، وهو الأخطر على الإطلاق، والأكثر جسامةً من جائحةِ كورونا، والأمر الأعظم فداحةً، والطارئ الأقوى فظاعة مما نحن فيه، بين ليلة وضحاها؛ انصرفت مخاوف الناس ورهبتهم من “كوفيد 19″، إلى ذُعرٍ وفزعٍ من “إتاوة 19″، وإذ بالشعبِ الأردني يدفعُ ضريبة لطف السماء بعدم تفشي الوباء فيما بينهم، وكأنها جِزيةٌ تقتطع منهم على سلامتهم، أو خراجٌ على أنقاض الخراب في أحوالهم.

     لم تأمن العباد من الفيروس إطلاقاً، ذلك أن الذي قد سلم منه بالمعنى الحرفي، لم يسلم من تبعاته الاقتصادية بالمعنى المعنوي، وهو بطبيعة الحال مُنهك ومُثقل بالديون وتردي الأحوال، وأن النظرة السطحية للوباء لا يُلغي إطلاقاً أعماق الأزمة ولا أبعادها ولا حتى آثارها الجانبية لها، وكل هذا لا يُبطل تأثره بلعنةٍ وقسوة الأوضاع الاقتصادية مبسقاً. 

    الصفعة التي استفاق عليها الأردنيون بقرار الاقتطاعِ أحدثت لهم انفصاماً بسبب ازدواجية العواطف تجاهه، فقد استفاق الواحد منهم على مودة منقطعة النظير في أواخر الشتاء، و استيقظوا اليوم على تعسفٍ واجحاف استقدم لهم بقرار مفاجئ وعسير في بداية الربيع، وكأنَّ ربيع بلادهم صار خريفاً أيضاً، ناهيكَ عمّا نحن فيه من جوعٍ وفقرٍ وتدهورٍ للأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

     أرادوا أن يعكسوا للعالم صورة ملؤها المحبة والعطف على شعب أنهكته ظروف معيشية صعبة وقاسية، وظهرت الحكومة كما لو كانت راشدة عاقلة وتحنو على شبعها كحنان الأم على ولدها، وتتناسى كل المصائب والمشاكل، وتتغافل عن حقيقة أوضاعنا و صدق أحوالنا، وهم يعلمون أن ما يُقدمون عليه الآن لا طاقة لنا به.

     لو نظرنا للظرف الراهن بعين المنطق، وتتبعنا مكنون الأزمة ومضامينها، ستُخبرنا بقيمة الواقع والمنطق الذي نعيش، أزمة أتمت شهرها الأول، تأثرت بها كل القطاعات بلا استثناء، والحديث ليس عن الأثر فقط، بل عن فترة التعافي من هذه الوقعة، صحيحٌ أن دولاً أنهكها الوباء لكنها في أيِّ لحظة ستنفضُ الغبار عن نفسها، وتقف كما لو أنها لم تقع، أما نحن ومن هو على شاكلتنا سنحتاج لجبر كسورنا، وتضميد جراحنا، وترميم ضرباتنا، ومواساة أنفسنا حتى نقف.. هذا إن كُنا نُحسِنُ الوقوف أصلاً.

     في سابقة تاريخية من نوعها، حطّمت فيها مبادئ المنطق وأسس الإتزان كل القواعد والمعادلات، حيث لم تتساوى ظاهر الأمور مع باطنها، وبدا أننا نعيش في رغد ورفاه منقطع النظير، و خُيِّلَ للناس كما لو كنا دولةً أوروبيةً في حجر القادمين وإكرام نُزِلهم في أرقى الفنادق، وإيصالهم لبيوتهم مع الورود، حتى ظنَّت الظُنون نفسها في حقيقة أمرنا، وخالط الشك جنبات قلبها، والجميع بين مُصفقٍ ومُبتهجٍ وفخور، وانشغلَ الغافلون ببضعة آلاف، وأنستهم غفلتهم سوأة حالهم، وتركوا الجائعين والمحرومين والمساكين، وانصرفوا عن 10 ملايين من المواطنين.

    أنظمة صحية بكل إمكاناتها وطاقاتها أصابها الانهيار في أعظم الدول، فماذا لو كانت أعداد المحجورين هي نفسها أرقام المصابين؟ فكيف يصنع نظامنا الصحي المُنهار سلفاً قبل هذه الوقعة؟ فسيتحول الواحد منا من مُصفقٍ إلى ناقمٍ على ما نحن فيه، وهو كذلك في تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشة التي رافقته منذ ولادته وستبقى ما بَقِيَ على وجه هذه الحياة المقتية.

     إنَّ حالنا لجدير بها أن يُشفِقَ عليها العدو قبل الصاحب، والخصم قبل الخليل، فالكبوةُ وحدها تفعلُ بنا ما تفعله مصيبةٌ بدولة عظيمة، فماذا لو أصابتنا مصيبة بمعناها الحرفي والمعنوي فكيف السبيل للنجاة وقتها؟ لا يخطرن ببال أحدكم ان مصابنا بجائحة كورونا منحسر بسبب الإجراءات، إنما هو عائد للطف السماء فقط، ولو كان عدد المصابين 50 ألفاً فما أنتم لها صانعون؟ وأي مشفانٍ ستستوعب هذه الأعداد المتواضعة قياسا بدول عدة؟ وأي صورة سنظهر بها امام العالم؟ لكن إن سلمنا من ذلك.. فإننا لم نكن لنسلم مما استجدَّ علينا الآن.. فقد جعلوا لنا حلاً يستحيلُ الوصول إليه، فإما أن تموت من الوباء.. وإما أن تموت من العناء.

Mo.almom16@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى