حرف واحد …!  

#حرف_واحد …!  

بقلم م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران  

تهرب أحياناً للاختباء عن عيون البشر، في لحظة تريد فيها إخفاء دمعة اعتصرت في مقلة العين، امتلأ قلبك فيها بالحزن أو القهر لظرف ما فتجد نفسك تجتهد في الحفاظ على صورة القوي الصامد في عيون من حولك، وتجنب رؤية نظرة الشفقة في عيونهم، وفي وسط كل هذه البراكين بداخلك تأتيك كلمات تطرق بابك بكل لطف لتقلب حزنك في لحظات إلى ابتسامة تخرج من وسط الركام، كلمات بسيطة ربما لا يلقي قائلها لها بالاً لكنها تترك أثر الزلازل في نفسك، وربما تبقى عالقة في ذهنك ما بقي من سنوات عمرك.  

قد يستغرب البعض هذه الكلمات ولكنها الحقيقة التي خلقها الله عزوجل في النفس البشرية، تلك النفس التي خلقها من لحم ودم ومشاعر تنتفض لكلمة واحدة فتقلب حالها وتغير أحوالها في لحظات، ولذلك شبه الخالق عزوجل الكلمة الطيبة في القرآن الكريم في الآيات 24-27 من سورة إبراهيم بالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت التي يصل فرعها للسماء وتنتج أجمل الثمر والأثر كل حين بإذنه تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)، وهو ما جاء التأكيد عليه في كل الديانات السماوية التي أرسل الله عزوجل بها أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فأثر الكلمة الطيب لا ينقطع ويبقى مع النفس ما بقيت أنفاسها تتردد عليها، ومثلها تماماً الكلمة السيئة وأثرها.  

مقالات ذات صلة

كان هناك أب يلاحظ أن ابنه ضعيف في الدراسة عن زملائه، ولا يمكنه أن يستوعب بسهولة، ولكنه كان دائماً يقول لولده كم هو يحبه وكم هو مميز وأنه فخور به، فكان يشجعه بالكلام الطيب حتى يتفوق في دراسته ويصبح أفضل، وكان الأب دائماً يقول لابنه بأنه يرغب في أن يراه أفضل شخص في العالم كله، مما حث الطفل على الاجتهاد حتى أصبح ابنه من المتفوقين، بل وأصبح أفضل طالب في صفه، فقط لأن كلمات والده كانت تشجعه وترفع معنوياته دائماً.  

وفي المقابل كان هناك طفل آخر متفوق في دراسته وذو أخلاق حسنة، ولكنه لم يكن يلتزم بمواعيد صلاته، فكان يؤخرها بعض الشيء، وعندما يعلم الأب كان يوجه له الإهانات وكلما يحين وقت الصلاة كان يشتمه بأبشع الشتائم حتى يصلي، وكان الولد ينزعج جداً من كلمات والده ويقوم للصلاة رغماً عنه، ومع الوقت جعلت تلك الإهانات الولد لا يصلي، بل وأصبح يكذب أيضاً، فكان عندما يسأله الأب عن الصلاة كان يقول بأنه أدى فرضه حتى يتجنب إهانة والده له، وبدلاُ من أن يحبب الأب ابنه في أداء الصلاة في وقتها جعله يترك الصلاة ويكذب أيضاً، بل وتدهور مستوى الولد الدراسي وأصبح يرسب بعد أن كان متفوقاً في دراسته بسبب كلمات بسيطة من والده كانت سبباً في دمار نفسيته.  

لا تستغربون هذه الكلمات فحياتنا قائمة على حروف كلماتنا، وكم من كلمة تغير فيها حرف واحد فقلب معناها وغير كل دلالاتها، وما أكثر الأمثلة فكم هو الفرق شاسع بين محيط ومحبط، وبين تقدير وتقذير، وبين حمار وخمار وبين الرحمة والرجمة، وبين دعم ودهم أو الراقي والراقص وفضلكم وفصلكم، وغير ذلك الكثير من الكلمات التي قلب حرف واحد معانيها فحولها من أداة عمار للقلوب إلى معول دمار وهلاك، ولذلك كان علينا كما نتخير من الثياب أجملها ومن الثمار أطيبها أن لا نبخل على أنفسنا وألسننا ومسامعنا ومسامع غيرنا تخير أرقى الحروف والكلمات وأميزها دائماً، فكم من كلمة كانت سبباً في عمار أمة، وكم منها ما ذهبت بأمم بأكملها في غياهب النسيان.  

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى