والمطر الأسود في عيني (طفلة على خط النار) / وائل مكاحلة

والمطر الأسود في عيني
(طفلة على خط النار)
مرحبا

إسمي بسملة.. أبلغ من العمر إثنان وعشرين شهرا ولله الحمد، ربما تتساءلون عما حدا برضيعة مثلي أن تدير لوحة الأزرار لتقلد أباها فتكتب عما تشعر به، لكن ثقوا بأنها محض همهمات ليلية، فلن ينبلج الصباح حتى أعود إلى عالمي المحدود.. ببرونة الحليب والأقمطة والدمية “فلونة”..

منذ أيامي الأولى وأنا أسمع أغنية تصر على إذاعتها المحطات المسموعة، يُقفل المذياع فأجدها على محطة تلفاز عينت نفسها وكيلا عن أرشيف التلفزة العربية، يُقفل كل هذا لألعب مع أبي فيدندن لي بها بصوته النشاز !!.. أهرب من أبي لسريري حتى أنام وأنسى تلك الأغنية السخيفة، لأجد مجلات الأطفال التي يتحفني بها أبي تتحدث عن نص الأغنية ذاتها…!!

“نحنا الربيع نحنا
نحنا فراشات زغار”

بهذه الأغنية العجيبة التي لم تحاك الواقع أبدا، كانت تتغنى – الطفلة وقتها – “ريمي بندلي” وعائلتها، لا أدري سبب أن تغني هذه العائلة بالذات أغنية كهذه !!.. أليست هي ذات العائلة التي هُجرت من ديارها ودمرت الميليشيات بيتها الجبلي في البقاع؟.. أليسوا هم ذاتهم من شاهدوا – عيانا – الطفولة وهي تتساقط كأوراق شجر مصفرة ذات خريف حزين؟.. فأي ربيع؟.. أليسوا هم ذاتهم من شهدوا إبادة الصغار كأنهم سحابات من جراد سخرت لأجلهم دول إمكاناتها لتبيدهم عن بكرة أبيهم؟.. فأي فراشات تلك التي يتحدث عنها آكلوا الرصاص.. الملتحفون بدخان القنابل والصواريخ ؟!!

تغيرت الأغاني فيما بعد كثيرا، فأصبحت تطالب الصغار بعدم بكاء شهدائهم من آباء وأمهات، وتحمل المسؤولية في سنون عمرهم المبكرة، والموت أيضا – تخيلوا هذا – على مبدأ آبائهم من المناضلين، وكأنه مكتوب على الطفولة أن تتقن فن الموت باكرا !!.. تغيرت الأغاني لتصبح حماسية محاكية للواقع أكثر، لكن الجيل السبعيناتي المتأخر في الفهم الذي جاء منه أبي ما زال مصرا على أننا الربيع والفراشات !!.. جيلهم الذي شهد بعض الدفاع الأهوج عن الأوطان من خطف طائرات إلى إحتجاز رهائن إلى تفجير صروح، لا زال في قلبه أمل في أن ما يعيشونه اليوم حلم سخيف، حلم سرعان ما سيستيقظون منه ليشربوا رشفة ماء من الكومود المجاور للفراش ويستعيذوا بالله من شياطين الأحلام…!!

وحده جيلنا من تعامل مع الموضوع ببراغماتية يُحسد عليها، المتابع لما يجري حولنا يدرك أن الكبار جاؤوا بالصغار ليواجهوا الموت بدلا عنهم، ربع الذين أشعلوا بأجسادهم شعلة الإنتفاضة الثالثة هم أطفال لم يبلغوا الحلم، والباقون بالكاد بلغوه ولم تكتمل أحلام الصبا في صدورهم بعد، سمعت أن أحدهم بعث برسالة وداع إلى حبيبته.. وأستغرب أن يكون لفتى في عمره حبيبة !!.. الطفل “خضير” أحرق حيا، وآخر لا أذكر إسمه قُطعت أوصاله قبل أن تُحرق، هل لا زلتم تذكرون هدى؟.. تلك الطفلة الغزيّة التي إبتعدت عن عائلتها وهي تلعب، ثم عادت لتجدهم أكوام لحم لم تستطع التفريق بينها؟.. الدوابشة دمه لم يبرد بعد.. فلا أعتقد أنكم نسيتموه…!!

الوارد من العراق وسوريا أيضا يبشر بمستقبل قاتم للطفولة التي لم تعد بريئة بعد، هل نسيتم عبير؟.. هل غادر إيلان ذاكرتكم؟.. ثم.. هل سمعتم بـــ”الشبل” الداعشي الذي ذبح ضابطا سوريا من قوات النظام؟.. هل يبقى هناك – بعد كل هذا – ما يسمى طفولة؟.. هذا حال الطفولة اليوم وأمس، لم يتغير شي سوى مزيد من الشقاء لتلك الكائنات التي لم تعد بريئة ولم تكن أصلا..

هل تريد دليلا؟!!

قف على نقطة مرور حدودية بين الأردن وسوريا، وإلمح بعينيك أسرة جاءت تجر مآسيها معها يطاردها الرصاص ليتلقفها حماة الإنسانية هناك، أنظر في أعين أطفالهم لتلمح ذات السؤال مشتركا فيما بينهم..

“لماذا ؟؟”

هو سؤال واحد ستترجمه حواسك لاإراديا، يكفيك لتشعر بعده بالعار..

وأي عار…!!
.
.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى