طه الهباهبة ودوره في المحافظة على التراث الشعبي الأردني

التراث الشعبي مصطلح ثريّ الدلالة عميق التأثير واسع الانتشار، لكنه مع ذلك لا يحظى بما يستحقه من عناية كافية، وكأنه أصبح جزءاً منبتاً عن ثقافتنا المعاصرة، وكتاباتنا الأدبية التي لا يستطيع المبدع إلا أن يتأثر به للتعبير عن فكرة أو حتى بناء نص أدبي معاصر. لا شك إن الصلة التي تربط التراث الشعبي بالأدب قائمة ووثيقة ولا تحتاج لتفصيل، فهي واضحة في المظهر أو الشكل الذي تُبنى من خلاله الحكاية ذلك العنصر المهم في السرد بشكل عام وفن الرواية على وجه الخصوص، كذلك فإن التراث الشعبي واضح من خلال دور الأسطورة والتراث في التمهيد للبطل الروائي. ليس غريباً بأن يكون للغة العامية أدب شعبي يعبّر عن حاجات وعواطف الطبقة الشعبية، كما للغة المعربة أدب رسمي وإنما الغريب أن تبقى هذه الحقيقة بعيدة عن ميدان الدراسة والبحث والاعتراف بها رسمياً. طه الهباهبة أديب ومفكر أردني أولى التراث الشعبي الأردني عنايته جمعاً وتأليفاً عبر مسيرة إبداعية ممتدة، قام من خلالها بتأليف العديد من المؤلفات ذات الصلة بالتراث الشعبي الأردني، ومن هذه المؤلفات: «الشوبك في التاريخ والوجدان الشعبي»، و»من يصدق الغيلان» و»الوشم فن وعلم» و»الحكاية الشعبية في محافظة معان» و»الغناء الشعبي (الهجيني) و»وحكاية شعبية عربية» و»المرأة في السيرة الشعبية حمزة العرب» و»العجوز في ألف ليلة وليلة» و»ألوان من التراث الشعبي في الأردن» وغيرها من المؤلفات والأبحاث ذات الصلة. إنّ ما أنجزه طه الهباهبه في مجال التأليف والجمع للتراث الشعبي الأردني جدير بالدراسة والكشف عن موضوعاته، بوصفه منجزاً وطنيّاً يضطلع بدور كبير في قضايا الثقافة والفكر يقوم بدور مهم وفاعل في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويؤصل لفكر وطني يُعزز الهويّة الوطنية وارتباطاتها القومية ذات الأثر الواضح في القضايا القومية، فضلاً عن أهمية ما كتبه في رفد المتلقي بمقومات ثقافية وحضارية تمس الحاضر والتحدي والمصير. في كتابه «الحكاية الشعبية في محافظة معان» يستعرض الهباهبة تعريف الحكاية الشعبية، وأصولها، وجمهورها، وبنيتها، وموضوعاتها، والمرأة فيها، كذلك يتحدث عن شخوص مازالت تحتل مكانة في الذاكرة الشعبية كالغول والضبع. إذ نعثر في الحكايات الشعبية المسرودة نماذج للبطولة والتضحية والنضال، ممّا يجسّد دور الأدب الشعبي في معرفة أفكار وعادات الطبقة الشعبية والمخزون الوجداني للأمة، وما يخامرها من تطلعات وآمال، إذ يمكن اعتبار النثر الشعبي من قصص وأمثال وألغاز من أقدر أنواع الأدب الشعبي على استيعاب ما يسود الحياة الاجتماعية والسياسية من تناقض، وأوسعها تمثلاً لطبيعة الصراع الاجتماعي وما تعرضت له الطبقة الشعبية من حرمان ومعاناة ، إذ يساعد النثر الأديب الشعبي على التنوّع في التعبير، والتفنن في تضمين الأحداث، والوقائع بطريقة تفوق الشعر. يقدم الهباهبة في حكاياته الشعبيّة التي يجمعها عن رواة تناقلوها عبر أجيال نماذج للقصص الشعبي الذي يحمل في أعطافه ملامح الأحداث والوقائع التاريخية الشعبية في صور رائعة أضفى عليها الخيال الشعبي طابع البطولة، والتضحية وطبعها بروح الشهامة والعزة المتوارثة في الحياة الأردنية لتغدو تصويراً لمزاج شعبي عام تشكّل نفسيّة الإنسان الأردني التواق دائماً إلى الحرية والكرامة. يزخر حكايات التراث الشعبي بشخوص قريبة من الواقع راسخة في الذاكرة لا تكاد تفارق مخيلتنا، ممّا جعل من التراث الشعبي صورة حيّة للبيئة الأردنية بكامل مكوناتها وتفصيلاتها حيث يوضح طه الهباهبه هذه القيمة الاعتبارية للحكايات الشعبية في تقديمه  لكتابه» من يصدّق الغيلان؟» في قوله: « ومن هنا فإن هذه الحكايات لا بدّ أن تُقرأ وتُكتب بروح أهلها، وأن تُعامل بالروح التي شاعت بها، والأحاسيس التي اختلجت بين جوانح صانعها الأول وإلا فقدت كلّ ما فيها من جمال، ومعايير وأفكار وقيم كانت سائدة ورائجة ومحترمة في زمانها. ولهذا فإن الحكايات غير مقطوعة الجذور، وإنما هي امتداد لتعاقب الأجيال، وهي الخيط الرفيع الذي ربط بين فكر الجد والأب والابن وسيبقى هذا الخيط قائماً لأن في ذات كل واحد منا ذكريات لآبائه وأجداده».(من يصدّق الغيلان؟ ص 7). لعبت شخصية الغول دوراً كبيراً في القصص الشعبية ، لذلك حاول طه الهباهبة تأطير ملامح هذه الشخصية وبيان دورها في الحكاية الشعبية، وتشكلاتها وقدرتها على التخفي والتلون والبطش، لذلك فإن جهده التنويري في هذا المجال جعله يحوّر الصورة النمطية للغول وعصرنتها في قالب يستطيع من خلاله جعل الأدب الشعبي قابلاً للقراءة في عصر العولمة ووسائل التواصل الحديثة، لذلك نجد الهباهبة يُلبس حكاياته الشعبية ثوباً عصرياً يلون خطوطها؛ ليُغري شباب اليوم بقراءة تراث أجدادهم وإحيائه في نفوسهم وعواطفهم. في كتابه» ألوان من التراث الشعبي في الأردن» الذي جاء ضمن إصدارات معان مدينة الثقافة الأردنية 2011م، يرصد الهباهبة تجليات موسم الحصاد في الحياة الشعبية الأردنية بما يتضمنه من أغانٍ ، وحكايات، وأدوات شعبية، وتقاليد ما تزال راسخة في الوجدان الشعبي، يتناقلها الأبناء عن الأجداد ترانيم عشق خالدة، تلتصق بالوجدان الشعبي مهما بلغ الناس من رقي وحضارة مادية . ولما كان التراث الشعبي وثيق الصلة بقصص وهموم الطبقة الشعبية في المجتمع فإن الهباهبة أوغل في الحديث عن « الوشم» في الحياة الشعبية فسماه « ذهب الفقراء» وفي التسمية ما يكفي لترسيخ مفهوم الوشم وارتباطاته الشعبية وإيقاعاته الوجدانية، وما قيل فيه من أشعار شعبية. ويفصل الهباهبة الحديث عن أغاني الصيد والبحر المرتبطة بمدينة العقبة ذات الطبيعة البحريّة التي عززت مورثها الشعبي بقصص وأغاني البحر والصيادين، ممّا كشف عن عمقها القومي لارتباطها بجيوش الثورة العربية الكبرى التي مرّت فيها، ومبايعة أبنائها للشريف الحسين بن علي ـ طيب الله ثراه ـ فضلاً عن قربها للسواحل السعودية والمصرية والفلسطينية ممّا عمّق من بعدها العربي في الأدب والتراث الشعبي، ومجمل الحياة الاجتماعية. كذلك جاء حديث الهباهبة عن الألعاب الشعبيّة الأردنيّة تعميقاً لحاجة فطريّة إنسانية تعكس الميول والمواهب وكيفية ممارسة الهوايات المختلفة المنبثقة من الوجدان الشعبي للأمة. القارئ لمجمل نتاج طه الهباهبة في التراث الشعبي، يمكنه رصد ملامح هذا التراث وتجلياته الإبداعية وتشظياته في مجمل النتاج الأدبي والفني في الأردن، فاللغة العامية أداة هذا الأدب بوصفها من أهم مقوماته، فهي عامل مشترك بين الأثر المجهول المؤلف، والمعروف المؤلف، كما أنها اللغة التي يستخدمها العامة والأديب الشعبي إنما يخاطب الوجدان الشعبي فإنه يعبّر عن حاجتها الاجتماعية والنفسية. كذلك فإن البساطة هي الطاغية معاني الأدب الشعبي فضلاً عن التلقائية التي تتسم بها حياة الطبقات الشعبية، والأديب الشعبي يصور حياة الريف ومجتمع القرية وطبقاتها الاجتماعية ممّا يجعل صدق الشعور، ونبل التصوّر سمة مهمة وواضحة في كتابات طه الهباهبة ذات الموروث الشعبي. لعلّ أهم ما يميّز هذه الكتابات الشعبية الروح الجماعية التي تشكّل النص التراثي، إذ يعبّر الأديب الشعبي عن ضمير ووجدان الجماعة فبل أن يعبّر عن الفرد. البعد الأخلاقي واضح في نتاج الهباهبة التراثي وهذه سمة مهمة في الأدب الشعبي بشكل عام، ففي نهاية الحكاية الشعبية نلمس الهدف الأخلاقي يشع بين مفردات النص؛ لينتصر للفضيلة والحق وقيم الخير، ممّا جعل بلاغة هذه الحكايات والنصوص تستند إلى بلاغة شعبية ومزاج شعبي تكتسي بطابع البساطة وتغتني بصفة القناعة. ولا شك أن القصص الشعبي قد تأثر بعناصر ثقافية عربية وأخرى أجنبية مثل: ثقافة الفرس واليونان والأتراك وغيرها، لكن الهباهبة استطاع وببراعة صهرها في موروث شعبي موحٍ ذي دلالة. تبقى مؤلفات طه الهباهبة توثيقاً مهماً للتراث الشعبي في الأردن، ومصدر ثري بالمعلومات؛ لاتكائه على المعلومة الشفوية والحكايات المتوارثة التي لا نكاد نعثر على راويها، فضلاً عن اتباعه المنهج العلمي في التوثيق والتحليل والاستنباط،  ممّا يعكس قيمة المعلومات التي يقدمها الهباهبة للمتلقي، والباحث على حد سواء. * ناقد وأكاديمي من الأردن

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى