
وشاية
استيقظَ ذات صباح على فنجان قهوة مُرّة في مكتب مدير المدرسة التي يعمل فيها. قدّم المدير بنفسه له الفنجان بقلقٍ شديد، وصبر عليه إلى أن ارتشف الجرعة المُرّة الأولى منه، ليخبره بالقرار الوارد بشأنه إلى المدرسة، والذي يقضي بفصله من العمل.
مدّ بصره بذهولٍ عبر نافذة غرفة المدير المطلة على ساحة الرياضة، حيث يتقاذف الأولاد كرتهم البائسة. ابتلع ريقه وهو يتذكّر اللحظة التي سقطت فيها ورقة تصويته في صندوق انتخاباتٍ ديمقراطية عديمة الجدوى قبل شهور وقالت له: سأشي بك!
ولم يصدّقها آنذاك.
سخنَ فنجان القهوة بين يديه وسخنَ وسخن، ثمّ خفّ وزنه فتحوّل إلى حالة هلامية، وانحلّ من قيود الأصابع والجاذبية. حلّق في الأجواء البعيدة.
أمّا هو فانتبه ليجد نفسه متكوّماً داخل الكرة البائسة التي يتقاذفها الأولاد في ساحة الرياضة. ظهره متقوّس بالتوازي مع تقوّسها الدائريّ، وركبتاه تضربان بكتفيه، ليجد رأسه وقفاه متكوّمين في زاوية مشتركة!
حاول التسلل من بطن الكرة، إلا أنّه تذكّر الورقة الواشية، فارتجف وأحرق فكرة التسلل إلى أجلٍ غير مسمّى.
تطلّب الأمر منه أن يصبر عدة أيام داخل الكرة، إلى أن استطاع التسلل ذات ليلة بعدما نامت المدينة. وعندما مشى في الشارع الخالي، كشّرت له الإنارة الليلية عن أنيابها، فأدرك الخطأ الكبير الذي اقترفه!
لن يعود أدراجه خوفاً من أن تستيقظ الكرة فتشي به! ولا يُعقل أن يتابع سيره تحت هذه الأضواء المفترسة.
اختبأ مرتعداً في فروة شعر قطة كانت تجلس بجانب الطريق.
“هل ترى الإنارة الليلية تشي بي، أم تتركني في سلام؟” خمّس وسدّس.
انتشلته من بحر أخماسه وأسداسه ملاحظته أنه أصبح قزماً ضئيلاً، فغدا باستطاعته الاختباء في فروة شعر قطة! سرعان ما تاه عن ملاحظته تلك، عندما أدرك أنّ شعر القطط تتخلله كمية وافرة جداً من الأكسجين، كما أنه ناعمٌ وسلسٌ يصلح لأن يكون منزلاً في يومٍ ما.
المنزل! يااااه! فطن لزوجته وأولاده فشهق.
كيف سيعود إلى المنزل وهو بهذا الحجم! هل يضمن أصلاً عدم وجود واشين في الطريق؟
دسّ يده في جيب بنطاله وأخرج ورقة الأغراض الأخيرة التي طلبتها زوجته منه قبل اختفائه في ذلك الصباح قبل أيام.
أطلّ من بين شعرات ظهر القطة، وتأكّد من أنّ أضواء الإنارة الليلية تراقب أشياء أخرى. قفز إلى الأرض وفرد ورقة الأغراض التي أظهرت حجمها الطبيعي الكبير عند فردها، إذ لم تكن تقزّمت مثله. كانت تبدو بالنسبة لحجمه الجديد كسجّادة غرفة بالنسبة لحجم إنسان طبيعيّ.
في منتصف مساحتها الشاسعة، كانت زوجته قد كتبت: ربع كيلو بندورة.
أحسّ بعبثية هذا الطلب الآن، فلم يعد بمقدوره حمل ربع كيلو بندورة، إذ إنّ وزن حبّة بندورة واحدة أكبر من وزنه وهو في هذا الحجم!
هوووب! باغتته يد بشريّة كبيرة التقطته من فوق الورقة.
“هي أعمدة الإنارة اللعينة التي وشت بي. أم تراها القطة الخرقاء!” هكذا فكّر وهو يرتعد خوفاً وحنقاً.
رفعه صاحب اليد الكبيرة من طرف قميصه كما يرفع ذبابة، ثم سار به على طول الشارع حاملاً إياه على راحته المنبسطة.
“ما الذي يريده مني وأنا في هذا الحجم المتلاشي؟ لم أعد ألزم هذا العالم!” تساءل في نفسه وهو يرتعد أكثر من ذي قبل.
سحبَ صاحبُ اليد الكبيرة مشجباً حديدياً من مكانٍ ما، وثبّته في الطرف الخلفي لرقبة القميص الصغير للقزم.
رفعت اليد العملاقة المشجب بما تعلق فيه من آدميٍ وثبّتته على برجٍ فولاذيٍّ ينتصب في منتصف المدينة.
تمّ ذلك ليلاً. وفي الصباح كان أهل المدينة جميعاً يمرّون على عجلٍ من جانب البرج الشاهق، محاولين قدر المستطاع الإشاحة بنظراتهم المذعورة عن القزم المعلّق بالمشجب الحديديّ على البرج. وكان منتصف المدينة حينئذٍ يغيبُ في صمتٍ عميق إلا من مواء قطة تعبر المكان. وقد لاحظ أهل المدينة أكثر من أية لحظة سابقة أنّ فروة شعر القطة تتخلّلها كمية وافرة جداً من الأكسجين، كما أنها ناعمةٌ وسلسةٌ تصلح لأن تكون منزلاً حلواً أبدياً.