التعليم ثم التعليم ثم التعليم

التعليم ثم التعليم ثم التعليم
د. معن علي المقابلة

مشروع القانون الذي وقعه رئيس الولايات المتحدة الامريكي ثيودور روزفلت في الثاني والعشرين من شهر يونيو من العام الف وتسعمائة واربع واربعين ميلادية بعد ان وضعت الحرب العالمية اوزارها في التعامل مع ملايين الشباب العائدين من جبهات القتال والذي عرف بمشروع حقوق المحاربين القدماء واجازه الكونغرس بالإجماع واصبح يعرف رسمياً بتعويض العسكريين، كان الهدف الظاهري منه مكافأة هؤلاء الشباب نظير شجاعتهم وتضحياتهم التي كانت سبباً في هزيمة المانيا واليابان، الا السبب الخفي منه هو التخوف من عودتهم لسوق العمل مما سيؤدي الى الكساد او عدم قدر السوق لاستيعابهم نتيجة التراجع في القوة الانتاجية للاقتصاد الأمريكي بعد انتهاء الحرب مما سيؤدي لمشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية.
تقوم فكرة القانون على تقديم مساعدة للمحاربين القدماء الذين سُرحوا من الخدمة تشتمل على التعليم وتوفير السكن في مرحلة الدراسة، ثم المساعدة على شراء منزل وافتتاح مشروع تجاري خاص بعد انتهاء الدراسة والتعليم، هذا القانون قدم لما لا يقل عن ثمانية ملايين من المحاربين القدماء فرص التعليم في الجامعات والكليات والمدارس الفنية.

احدث هذا القانون وبمحض الصدفة ثورة في كل الاتجاهات وسيكون له اثار عميقة في مستقبل الولايات المتحدة وتصدرها للعالم في مختلف القطاعات، صحيح ان اوروبا خرجت منهكة سواء الدول المهزومة او المنتصرة بعد الحرب بخسائر بشرية هائلة وبنى تحتية شبه مدمرة، بينما خرجت الولايات المتحدة ببنى تحتية سليمة نتيجة بعدها الجغرافي عن ساحات القتال، بل اصبحت ورشة العالم الذي يمده بكل الاحتياجات نتيجة توقف المصانع في اوروبا نتيجة الحرب، الا ان توقف الحرب سيعيد الطاقة الانتاجية للولايات المتحدة الى نسب ما قبل الحرب، نتيجة تراجع الطلب على منتجاتها اذ اخذت اوروبا بتضميد جراحها وإعادة بناء اقتصادها، وهذا ما ادركته ادارة الرئيس روزفلت فجاء هذا القانون لتظهر اثاره الايجابية بعد اقل من خمس سنوات ولتمتد هذه الاثار الى يومنا هذا في متتالية ستضع الولايات المتحدة في المقدمة الى ان يشاء الله.
الثورة التي احدثها هذا القانون بنت رأس مال بشري بحيث اهلت ثمانية ملايين شاب امريكي، ففي عام 1950م مُنحت اربعمئة وست وتسعين شهادة جامعية، بحيث قُدر حجم الاموال التي أنفقتها الحكومة الفدرالية ما بين العامين 1945و1952 اربعة عشر مليار دولار كإعانات تعليمية للمحاربين القدماء، وهذا مبلغ هائل في تلك الفترة، وسيكون رأس مال بشري محفز للاقتصاد الامريكي، واحدث هذا المشروع ثورة اجتماعية بحيث وصل الكثير من شرائح المجتمع لوظائف رفيعة مما ادى الى تعزيز الطبقة الوسطى وبذلك توسعت النخبة الاقتصادية وتنوعت وحملت الاقتصاد الامريكي الى آفاق واسعة ورحبة، بل استمر هذا القانون في تقديم هذا المساعدات للمحاربين القدماء الذين اشتركوا في حروب متعاقبة ومنها الحرب الباردة، مما ادى الى إنتاج رأس المال البشري والقدرة التكنولوجية طوال السنوات الستين الاخيرة، مما جعله يتربع على عرش اقتصاد المعلومات الجديد، كما تربع ذات مرة على الاقتصاد الصناعي في العقود السابقة.
كما احدث هذا القانون ثورة في قطاع الاسكان فهذه المساعدات التي قدمت لملايين المحاربين القدماء العائدين من جبهات القتال ساعدتهم على الزواج وبناء أُسر مما احدث طفرة في المواليد وصارت الحاجة للمساكن اكثر الحاحا.
هذا القانون الذي وضعته الادارة الأمريكية ووافق عليه المشرع الامريكي(الكونغرس) بالإجماع كان له ابعاداً لم يخطط لها صانع القرار الامريكي، الا ان اثار هذا القانون اخذت تظهر بعد سنوات في التحولات الجوهرية على الاقتصاد الامريكي والتي انعكست إيجاباً على الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية، واثبت ان كل فلس يدفع على التعليم هو استثمار في الاجيال ومستقبل الامة ،فالكثير من الدول ارتقت الى مصاف الدول المتقدمة بعدما احدثت ثورة في نظمها التعليمية، فدولة كسنغافورة استقلت عن بريطانيا سنة 1965م فبفضل نظامها التعليمي استطاعت ان تصبح رابع اهم مركز مالي في العالم، ومدينه عالمية تلعب دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي ويعد مرفأ سنغافورة خامس مرفأ في العالم من ناحية النشاط، وهذا لم يأت من فراغ فقد استطاعت سنغافورة بفضل الاستثمار في التعليم من خلال تخصيص اكثر من 18% من دخلها القومي للتعليم مما جعلها تتصدر الاختبارات العالمية كاختبار تمس للرياضيات والعلوم اكثر من مرة، واصبحت تجربتها في التعليم مثال يحتذى من الدول الكبرى كالولايات المتحدة، وهناك الكثير من الامثلة على الدول التي استطاعت ان تنافس الدول الكبرى عندما اهتمت بالتعليم وانفقت عليه بسخاء.
اخيراً وليس آخرا، في بلدنا الاردن والذي امتاز في بداية نشأته بالاهتمام بالتعليم بحيث اصبح نموذجاً يحتذي للأشقاء العرب في تجربته الرائدة، واصبح ابناءه من حملة الشهادات الجامعية عملة صعبة للأردن والدول العربية وخاصة الخليجية والمغرب العربي حيث ساهموا في تأسس النظم التعليمية فيها، الا ان الاردن في العقود الثلاث الاخيرة اخذ بالتراجع في التعليم العام والجامعي بحيث سبقته تلك الدول التي اعتمدت عليه في البدايات، ويعود ذلك لانتشار آفة الفساد التي اخذت تنخر في كل مفاصله، واصبحت مهنة التعليم مهنة طارده نتيجة تدني اجور العاملين فيها والبنى المتهالكة للمؤسسات التعليمية، وقصر نظر القائمين على ادارة الدولة، وتتجلى نظرة الدولة للتعليم عندما نعلم ان نسبة ما تنفقه على التعليم لا يتجاوز 4% من الدخل الاجمالي للدولة، وهذه المواقف المعيبة التي اخذنا نشاهدها مؤخراً من بعض رجال الدولة تجاه المعلم، الذي يعود اليه الفضل في بناء الدولة بمؤسساتها التي نفخر بها، عندما كان قائداً مجتمعياً يحظى باحترام رجال الدولة الحقيقين كوصفي وحابس لا اشباه المسؤولين في ايامنا هذه.

د. معن علي المقابلة
باحث وناشط سياسي
Maen1964@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى