التعليم الخاص بين العجز الحكومي وتغول رأس المال

التعليم الخاص بين العجز الحكومي وتغول رأس المال
د. معن علي المقابلة

يبدو ان جائحة كورونا وكما يرى كثير من المحللين الاستراتيجيين ستحدث اثاراً عميقة في بنية المجتمعات سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ‘ فهذا الجدال والحوار بين المهتمين والمتخصصين والمتأثرين على مواقع التواصل الاجتماعي بعد ان بدأ هذا الرعب حول هذا الفايروس يهدأ ، اخذ الناس يكتشفوا ضعف حكوماتهم المتراكم والذي اظهرته هذه الجائحة وفي كل القطاعات الصحية والتعليمية والنشاطات الاقتصادية والسلوك الاجتماعي المرتبط بالعادات والتقاليد.
يدور في الاردن حوار وجدال ارتفعت وتيرته هذه الايام على مواقع التواصل الاجتماعي حول قطاع مهم مرتبط بالاعداد الكبيرة العاملة في هذا القطاع آلا وهو قطاع التعليم الخاص ، والمقصود هنا التعليم المدرسي وليس التعليم العالي ، ففي هذا القطاع يعمل ما لا يقل عن اربعين الف ما بين معلم واداري ما يمثل نسبته 32% من المعلمين في الدولة ، مما يجعله القطاع الأول في تشغيل العمالة في القطاع الخاص ، كما ان هذا القطاع يستوعب ما يقارب من ستمئة الف طالب ما نسبته 28% من طلاب الاردن ، تتوزعهم اكثر من ثلاثة الاف مدرسة ما نسبته 46% من مدارس الدولة ، هذه الارقام والنسب تعطينا مؤشر ان هذا القطاع يحمل عبئأ كبيراً عن الدولة سواء في استيعاب هذا العدد من الطلاب او المعلمين وما يرتبط بالعملية التعليمية ، وهذا ما يدركه القائمون على هذا القطاع مما يعتبرونه نقطة قوة لهم ونقطة ضعف للدولة ، فتضطر الحكومة ان تتغاضى عن كثير من التجاوزات التي يقع فيها هذا القطاع وعلى رأسها أجور المعلمين.
وهنا لا أُذيع سراً عندما نتحدث عن الفروق الهائلة بين أُجور المعلمين داخل هذا القطاع نفسه فقد نجد تفسيراً منطقياً ، فهناك مدارس دولية واخرى ذات امكانات هائلة ومتميزة سواء في البناء المدرسي والغرف الصفية المؤهلة والمختبرات المتخصصة كمختبرات العلوم والحاسوب واللغات والتي تجهز على احدث المعايير العلمية ، الى جانب الملاعب والمسابح والساحات المتنوعة ، مما يجعلها قبلة لفئات معينة من المقتدرين مالياً ، فقد تصل اقساط الطالب في هذه المدارس الى بضعة الاف من الدنانير ان لم يكن اكثر ، مما ينعكس على ادائها وبالتالي ينعكس إيجاباً على اجور العاملين فيها ، وهنا ايضاً لا أُذيع سراً عندما اقول ان أُجوربعض المعلمين قد تصل لإلف دينار او الفين اي ضعفين او ثلاثة او اربعة اضعاف راتب زميله في وزارة التربية والتعليم ، وحتى نكون دقيقين فان هذا النوع من المداس لا يتجاز 1% من مجموع المداس الخاصة ان لم يكن اقل ، وتنحصر هذه المدارس في العاصمة عمان ، ولكن في الاتجاه الاخر نجد الغالبية العظمى من المدارس المنتشرة في المدن الاخرى والارياف قد لايصل اجور المعلمين للحد الادنى ، الذي يحدده قانون العمل والعمال الاردني وهو مئتان وعشرين ديناراً(خط الفقر التي حددته الحكومة ضعف هذا المبلغ) ، بل نجد بعض المدارس لا يتجاوز راتب المعلمة فيها المئة دينار وهو ما نستطيع ان نطلق عليه إتجار بالبشر ، وعمل المعلمة في هذه المدارس لا يقتصر على التدريس فهي بائعة في المقصف المدرسي – وطبعاً قصة المقصف المدرسي والرحلات المدرسية في هذه المدارس قصة اخرى في الاستغلال للطالب وولي امره – ومحاسب وجابي في تحصيل الرسوم المدرسية وكنترول باص في توصيل الطلاب لبيوتهم وغير ذلك من الاعمال التي ليس لها علاقة بالعملية التعليمية التعلمية ، هذا كله ناتج عن ضعف الدولة بكل اجهزتها الرقابية في متابعة هذا القطاع ، هذا اذا احسنا النية ولم نقل انها متواطئة ، والتواطئ هنا ضمني بالسكوت على كل هذه التجاوزات ، لأنها تعلم ان هذا القطاع يحمل عنها جزءاً كبيراً من مسؤوليتها في التعليم ، فاذا ما تشددت في الرقابة وفرض المعايير التربوية على هذه المؤسسات فان الكثير منها سيغلق ابوابه فتتفاقم مشكلة استيعاب المدارس الحكومية للطلاب التي هي في الاصل تعاني من الاكتظاظ في مدارسها.
يبدو ان الامر سيبقى على ما هو عليه ما دامت الدولة لا تعطي الاهتمام الكافي للتعليم العام فمزانية وزراة التربية والتعليم لهذا العام 2020م لا تتجاوز الـ12.2% اي ما نسبته 3.8% من الناتج الاجمالي للدولة ، هذا اذا علمنا ان الدولة تحتاج الى بناء ستين مدرسة في السنة لإستيعاب الطلبة الجدد ، وهذا غير متوفر ضمن هذه المخصصات الهزيلة في الموازنة لوزارة التربية والتعليم ، مما يؤدي الى اكتظاظ المدارس الحكومية ، فنجد في الغرفة الصفية اربعين او خمسين طالباً في كثير من المدارس ، وهنا يحق لنا ان نتساءل لماذا هذا التقتيرعلى وزارة التربية والتعليم فقد بلغت ميزانيتها للعام 2020م مليار دينار بينما المؤسسات المستقله تتجاوز ميزانيتها المليارين!!!؟ هذا كله يضطر ولي الامر ان يذهب للتعليم الخاص مما يضطره إنفاق جزء كبير من دخله على تعليم ابنائه.
كما ان المشكلة ستتفاقم ما دامت الدولة تتعامل مع هذا القطاع على انه استثمار لرأس المال ، الهدف الرئيسي منه جني الارباح والتعامل مع هذا القطاع وكأنه مصنع حديد وصلب او مصنع اسمنت او مزارع دواجن وابقار ، وهذه النظرة لهذا القطاع تؤكدها ان الحكومة تُتبعه لوزارة العمل وليس لوزارة التربية والتعليم صاحبة الولاية العامة والاختصاص في التعليم من المرحلة الاساسية الدنيا الى الثانوية العامة(التوجيهي).
وحتى لا أُطيل في التوصيف اطرح كمتخصص بعض التصورات لإعادة هذا القطاع الى إطاره الصحيح وهو التربية والتعليم ، وبما لا يتعاض مع الاستثمار وجني الارباح للمستثمرين في هذا القطاع ، بحيث يصبح هناك استثمار حقيقي في الانسان وهو ما تركز عليه فلسفة وزارة التربية والتعليم الاردنية فيما يعرف باقتصاد المعرفة ، وفي الاطار الاشمل وهو فلسفة الدولة في اعداد الموطن الصالح والمنتمي والمؤهل في خدمة وطنه والانسانية.
اولاً:- ارى ان يصبح هذا القطاع تحت مظلة وزارة التربية والتعليم بشكل كامل ، واي خلاف بين اصحاب المدارس والوزارة او اصحاب المدارس والعاملين فيها يكون القضاء الاردني هو الفيصل كما هو معمول به في القطاع العام.
ثانياً:- ان تدار المدارس الخاصة من مدراء من وزارة التربية والتعليم تنتدبهم الوزارة لهذه المدارس بحيث يشرف على العملية التعليمية والتعلمية بشكل مباشر ويخضع المعلمون لتقييمه وليس لمزاجية صاحب المدرسة ، وبناء على هذا التقييم الذي يشترك به المشرفون التربويون من الوزارة يتم تجديد عقد هذا المعلم او ذاك.
ثالثاً:- يقتصر تأسيس المدارس الخاصة على الشركات المساهمة كما هو معمول به في الجامعات الخاصة ، مما يقلل من مزاجية صاحب المدرسة.
رابعاً:- يتم تعيين المعلمات والمعلمين عن طريق وزارة التربية والتعليم ووفق الاسس التي تعتمدها الوزارة ، بحيث يقدم المؤسس للوزارة عن عدد الشواغر التي تحتاجها ويتم تعيينهم وفق الاسس العامة التي تُعتمد لأي وظيفة ، مع مراعاة اصحاب الخبرات والكفاءات من المتقاعدين وغيرهم ممن تحتاجهم مثل هذه المدارس.
خامساً:- يخضع المعلمون والمعلمات للتقييم الفني والتدريب من قبل وزارة التربية والتعليم من خلال ادارة التدريب والاشراف التربوي.
سادساً:- إشراك معلمو القطاع الخاص بالتأمين الصحي الحكومي ويكون اختياري لأن بعض المدارس الخاصة الكبرى لديها تأمين لدى المستشفيات الخاصة ، بينما مدارس الاطراف تفتقد للتأمين الصحي في القطاع الخاص والعام ، او توضع معايير للاشتراك في التأمين الحكومي او الخاص.
سابعاً:- تحول رواتب المعلمين لقسم الرواتب في ادارة التعليم الخاص في وزارة التربية والتعليم.
ثامناً:- تغليظ العقوبات على المخالفين وخاصة في رواتب المعلمين والمعلمات تصل الى غرامات مالية عالية اوالسجن او كليهما ، واذا ما تكررت المخالفات يتم وضع المدرسة تحت اشراف الوزارة الكامل.
اخيراً وليس آخراً ؛ هذا الجدال الدائر على مواقع التواصل الاجتماعي حول استحقاق المعلمين في القطاع الخاص بل العاملين في القطاع الخاص بشكل عام لرواتبهم ، هل يستحقونها كاملة او جزء منها او لا شيء منها نتيجة التوقف عن العمل بفعل الجائحة؟ تظهر عجز الحكومة سواء في تشريعاتها او رؤيتها في التعاطي مع هذه الجائحة في هذا الملف ، فبينما بعض الدول تقدم مبالغ نقدية لكل ابناء شعبها العامل وغير العامل للوقوف امام هذه الجائحة التي تضرب الجميع ، لأنها تعلم ان تماسك المجتمعات في هذه الأزمة غير المسبوقة هي اول مصدات الدفاع لحماية الدولة ، نجد المسؤولين لدينا يتسابقون لحمل طرد غذائي لا تتجاوز قيمته العشرين ديناراً لتوزيعه على اسرة محتاجة هنا واخرى هناك ، بينما هذا عمل الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني التي لا تزال الحكومة غير قادرة على اتخاذ القرار في اشراكهم في المساعدة للتصدي لهذه الجائحة.
باحث وناشط سياسي/ الاردن
Maen1964@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى