من وجع الذاكرة 4 / أبو ورد

من وجع الذاكرة 4

أسأل نفسي كثيرا : هل أقوى على البوح بكل ما لدي ? إلى أي حد سيصدم به من يشكلون الدائرة حولي ? ثم ما هي حدود المسموح والممنوع في قانون المطبوعات ? ما يقال وما لا يقال . هل يرضى كثير ممن ترد أسماؤهم أو أسماء من يعنيهم عما أقول ? ما ردات أفعالهم ? وإلى أي مدى ستستجيب رئاسة التحرير فيما لو اعترض معترض ? وصحيفة سواليف سبق ورفضت بعض المقالات .

يبقى أمر يحفر في أعماق الضمير : هل أقفز عن بعض الحوادث , وبعض من يتابع ينتظر مرحلة لبنان . مرحلة مضت ولما أبلغ الثامنة عشرة بعد . ويضيفون : وماذا عن مرحلة أيلول وقد واكبتها بخيال متوقد وذهن تنطبع به الصور جلية كأنها اليوم ? ينتظرون . وأنا تتعمق عندي أزمة البوح والاعتراف , هل أقوى على التحريف ? عندئذ لمن أكتب ? وما قيمته ? وكيف لي أن أتصالح مع ذاتي مرة ثانية , وقد قضيت جل عمري في شجار دائم ? سأكتب ما أستطيع , وفي اللحظة التي تخونني فيها الفكرة أو الجرأة سأتوقف عن الكتابة بلا أسف . التزوير سقوط أخلاقي . وحتى ذاك الحين سأدوس على مواجعي , وأعترف . فمن قال إن الأعمار طوال , والإيام ليست غوادر ?

في مدرسة ناعور الثانوية أكملت الثانوية , الفرع العلمي ,المدرسة تقع تحت مستوى الشارع , المبنى بسيط يتألف من طابق واحد , المدير الأستاذ أحمد علاوي , قصير البنية , صارم في قراره وتنفيذه , ويعرج من ساقه . خاض انتخابات مجلس النواب أواخر الثمانينات نائبا عن مادبا , ممثلا للتيار الاسلامي , ونجح . سألته ذات صباح : لم العرج ? أمام الطلاب كرر قصة سقوطه عن الحمار , وكيف تفوق على إصابته . الطلاب هناك خليط من شراكسة ومسيحيين وبدو , زميلي في المقعد مازن نور الدين , شقيق مامون نور الدين , اعتاد مازن أن يعتمر كوفية تشبه الكوفية الفلسطينية التقليدية , هادئ , قليل الكلام , وكانت تلازمه لثغة بالراء , ظل رفيقي طوال السنوات الثلاثة الأخيرة , التحق بسلك الأمن العام . يقولون صار عميدا , وربما تجاوز ذلك , فرقت بيننا الأيام , ومضى كل لغايته . أستذكرك يا مازن , ما راح وما بقي , ومن الواجب الأخلاقي أن أقول يفترض بمظلة الدولة أن تشمل الجميع .

مقالات ذات صلة

في غرفة الصف كل شيء هادئ , الجميع يحترم الجميع , نجيب , والناعوري , وحمتو , وحباق , ومشاعلة . الأستاذ يحيى الشريف مدرس الانكليزي يطلق النكات , وينهي المادة باقتدار . أنشطة المدرسة متواصلة , زوار كثر ياتون , يلقون محاضراتهم ويمضون . عدنان لطفي , مدير التربية , والملحق الثقافي في بيروت . لن أنسى طيف زائر جاء من مخيم البقعة إن لم تخن الذاكرة . أحمد عزام , المنظر الفكري للجهاديين العرب في إفغانستان , والزعيم الفعلي لهم قبل أسامة بن لادن , وأحد من قضوا في باكستان غيلة . أذكره بطوله الفارع , ونحفه البين , وثوبه الفضفاض , منديله وعقاله , كان الرجل محني الظهر , يحمل هما عميقا , وإيمانا أعمق بفكره , ربما إلى درجة اللهفة والهوس , القى محاضرة عن فلسطين , وضزورة محاربة الكفر . أنهى محاضرته , وحف به الجميع , ثمة سر في شخصية الرجل . مضى , وليس لي سوى أن استمطر الرحمة عليه .

انتهى العام الدراسي . بعد شهر إلى امتحان الوزارة . لم استغرب إذ كان ترتيبي الأول في. المدرسة , تفوقت على المنافسين , وبعضهم نال نصيبا في مراكز الدولة . في وزراة التربية استرقت بعثتي , لا أعرف لمن ذهبت تحديدا . المسؤول (من الكرك) أكد أني تاخرت بالمطالبة , فآلت إلى غيري . في طريق عودتي شاهدت إعلانا في صحيفة الرأي , مديرية الأمن تريد ابتعاث طلبة إلى بريطانيا لدراسة الهندسة . أمل جديد يلوح في الأفق . تقدمت بطلبي , ومن غرائب الصدف أن يكون ترتيبي الأول أيضا . المقدم عوني مسمار ينظم طابور الدخول , وأدلف . مدير الأمن قصير البنية , ممتلئ الجسد , تظهر عليه علامات الذكاء , والحدة . أسئلة سريعة , ويتخذ القرار . غازي عربيات له وجهة نظر , ووجهة نظره نافذة , ولست بقادر على مساءلته . سافر من انتقاهم وأرادهم , وبقيت أذرع شارع الملك طلال وحيدا , أعلل النفس بالآمال أرقبها , على رأي الشاعر .

لست حرينا على ما فات , بل أشعر بكثير من الامتنان للجميع , فقد أعطتني الأيام قوة روحية أعتز بها , وإرادة صلبة تقوى على مواجهة الظروف , وقناعات فكرية يصعب تبديلها , منحتني طاقة حب للجميع , أنظر إليهم , وأرثي لحالهم , فالعطش لا يرويه سراب , ولا وهم قوة , أو ضعف الآخر . عطش الدنيا يرتوي من عدل يبدأ بالنفس , ثم يشمل الجميع , وعطش الآخرة يبقى بين يدي واحد أحد , طلق الارادة والحاكمية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى