«مقلوبة الكوشوك» / د.فدوى احمد علاونة

“مقلوبة الكوشوك “

ام محمد ، سيدة في الخمسين من عمرها ، مكثت عمرا طويلا في احضان الشجاعية ، و تصالحت مع الزمن لتعيل نفسها ب«تطريز» الاثواب الفلاحية ، تهدي فنها و نقشاته لكل عروس في يوم زفافها و تضفي من لمساتها على اكتاف النساء و اكمامهن جمالا و رونقا و عراقة ، هي لا تعرف من القراءة سوى فاتحة الكتاب و ما تيسر من السور و لا تطمع في الحساب اكثر من تعداد الايام من الجمعة للجمعة و حساب الاشهر و السنين من رمضان الى رمضان. في عمرها المفعم بالكد و التعب، اعتادت ان تشارك جيرانها اتراحهم قبل افراحهم، تقاسمهم الدموع لتخفف عنهم و تقتسم اللقمة معهم لتسد جوعها و جوعهم. تجلس بين النساء ساعة العصر «في الحوش» ، فيبادرها الصغار تحياتهم و مشاكساتهم بالعبث بخيطانها فتوسعم قبلا و احضانا. و لان عينيها لم تعد تسعفانها في حبس الخيط في الابرة و لان الكهرباء كثيرا ما تخونها، بات التطريز عبئا عليها لكنها لم تكن عبئا على اي من عبدالله و اسماعيل و خالد ، ثلاثة من الشبان الذين درجوا خطوات طفولتهم امامها ليصيروا شبانا، يغدو اولهم الى ورشة تصليح السيارات مع بزوغ الفجر ، لا يثنيه برد و لا حر و لا حتى حصار عن تامين طعام الفطور لها، اما اسماعيل فيواظب على دروسه و كتبه بجوارها، فهو يعلم ان باب المدرسة يغلق لايام و اشهر و باب الخالة ام محمد مفتوح واسع لا يتغير ، و اما خالد ، فهو في الصباح طالب في ” مريول ابيض” و في المساء استاذ خصوصي و طبيب معني بها، ينهي اعماله مع اتمامها تناول حبة الدواء و شربة من الماء تسقيه منها دعاء بالفلاح و النجاح. و في ليلة نيسانية النسيم، حدث ان اجتمع ثلاثتهم في زيارتها ، بعد ان خرج اسماعيل من المعتقل، منهك الاطراف و الوجدان، جلسوا يتسامرون في ضيافتها ، فاستاذنتهم ان يكون غداء “الجمعة ” من صنيعها ، فاجابوها بصوت واحد «رايحين عالكوشوك يا خالتي» و رغم انها لم تفهم ما قالوا الا انها دعت لهم بالنجاح و الفلاح كما اعتادوا ان يسمعوا منها، و لم يسمح لها فضولها ان تمر عليها ليلة اخرى دون ان تعرف مغزاهم ووجهتم . و في الجمعة الكريمة و بينما ثلاثتهم مشغولون باطلاق الغيمة السوداء لتعانق عنان السماء و تعمي ابصار الاعداء، سمعوا صوتها الرقيق يناديهم و فوجئوا بها و قد اعتدت لهم مائدة في قلب عجل تتوسطها حبيبات الارز محتضنة قطع اللحم الطري و تحوم حولها زجاجات الشراب البارد و الماء الهني ، و اومأت لهم ليفترشوا الرمال و تبسمت قائلة «مدوا ايديكم و سَمّوا يمّا، محمد لما استشهد ما كان يعرف انها امه رح تعمل مقلوبة و تقدمها عطاولة كوشوك . * في محاولة مني لكتابة قصة قصيرة مستوحاة من هذه الصورة المفعمة بهمة المقاومين و حمرة دمائهم

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى