مطحنة الشرايط
تدب الحياة حول ( مطحنة الشرايط ) كما كانوا يسمونها وهي شاحنة قديمة في زمننا الذي لايقل عنها قدماً ، تحمل في صندوقها الخلفي فرامة ضخمة مخصصة لبقايا الملابس أو أي قطعة قماشية قد انتهت صلاحيتها بعد أن أعيد تدويرها وتغيير الغرض الذي من أجله صنعت عشرات المرات ، فقد تنقلت القطعة بين أجساد الأخوة من الأكبر إلى الأصغر وفي كل مرة يقنعون من يقع عليه الإختيار ليلبسها بأنها مازالت جديدة اذ لم يمض عليها أكثر من خمس سنوات بالخدمة حيث بدأت حياتها العملية ك( بلوزة ) شتوية للأخ الأكبر ولما صارت صغيرة عليه – وهو التعبير الذي الذي مازلت استغربه ( صغرت عليه ) – كيف يتم قلب الحقائق وهل البلوزة كائن حي كي تصغر او تكبر – ام هو أخي الذي كبر جسمه فماعادت تكفيه فيتم تدويرها لمن بعده ليقضي فيها شتاءً وراء شتاء حتى إذا كررت فعلتها وصغرت عليه انتقلت لمن بعده ،، وهكذا حتى لايعود لها بالبيت جسم تصلح له ، فتتحول إلى ممسحة أو تسكيرة لثقب في زجاج ، أو سدادة لماسورة دخل منها فأر ،، وان سلمت من كل هذه الاستعمالات اتجهت فوراً لتأخذ دورها في طابور المنتظرين لمطحنة الشرايط لتكون حشوة في فرشة أو مخدة لتكتمل دورة حياتها التي لاتظهر لها نهايه …
تنزل الأكياس المحشوة بقطع الملابس والأقمشة المختلفة عن أكتاف أصحابها عند المطحنة اذا رأوها تقف في مكانها المعتاد كل عام لتقضي أياما في ممارسة طحن مايقدمه لها سكان الحارة حتى إذا انقضت الأيام ولم يعد بالحارة من يطحن تنقلت لمكان اخر على وعد بالعودة في العام القادم ،،
أمام المطحنة لاتطلب المساعدة فالكل يساعد الكل دون طلب وصوت المطحنة يهدر في الأفق ورائحة الديزل والدخان الاسود يملأ الجو ، والنساء مثل الرجال كل ينتظر دوره ويتخذون مجالسهم تحت الأشجار المنتشرة في السهل الممتد كأنه كرنفال الربيع بأحاديثهم التي تدور حول الموسم والأمطار والمحصول ودعوات النساء لأبنائهم وأسئلة حول ماجرى هنا أو هناك ،،،
وأبو زهدي صاحب المطحنة بسيجارته التي لاتفارق شفتيه وسعاله الأجش كصوت مطحنته منشغل بإدخال القطع في فتحة ضخمة بعد أن يستلمها من أصحابها ويشير عليهم أن ينتظروا طحنتهم خلف الشاحنة حيث تصب ماطحنته بعد أن ينقدوه قطعاً من القروش مقابل هذه الخدمة ،،،
أطفال الحارة يدورون حول المطحنة في احتفالية غريبة كأنهم الهنود الحمر حول نيرانهم ولاغرابة في ذلك فهم يعشقون الاحتفال بكل شيء ولا يكاد يمر عليهم حدث الا ويحتفلون به حتى لو كان مطحنة لا يخرج منها الا صوت منفر ورائحة تزكم الانوف ..
أما النساء فلكل منهن شرح لمخططها للفرشات واللحف ،،
مرت الأيام وتقلبت الليالي واختفت المطحنة واختفى أبو زهدي كالسهم مر من شباك الذاكرة وأكمل طريقه من الشباك المقابل لانعرف من أين أتى وإلى أين يمضي ،، بعد أن خفت صوت المطحنة واستبدلت نساء الحارة فرشات الصوف والقماش والشرايط بالإسفنج …
صار أبو زهدي – كما سمعنا – يجلس أمام عتبة الدار وحيداً هزيلاً يحكي الحكايا ويتكيء على الجدار بسيجارته التي لاتفارق شفتيه يقول للأيام ( آه ) كأنما يغازل صبية على كتف النبع أيام الشباب و يطحن أحاديث الشباب كما كان ( لكن دون مستمعين … )
رحل أبو زهدي ورحلت معه مطحنة الذكريات وظل صوتها يغازل ليل الشوارع و الأزقة تنادي من رقدوا بسلام واستراحوا ..