مطحنة الشرايط / يوسف غيشان

مطحنة الشرايط

في عالم الأطفال، كان قدوم مطحنة الشرايط كل عام، يشكل حدثاً جماهيرياً هاماً ومنعطفاً رائعاً في صيف المفاجآت الموسمي.
مطحنة الشرائط كتلة حديدية عملاقة صدئة، لكنها مصدر تفريخ عملاق للفوضى والضجيج، وهذا ما كنا نفتقر إليه في عالم البلدة الخامل، سوى من قرارات العجائز والاشتباكات النسوية أمام الطابون، وهفيف (عبي ) الرجال في تنقلهم من دار لدار يوم العيد.
مطحنة الشرايط، كنا نواكبها حتى البيادر، ونراقب العمال وهم يشحّمونها ويركبّون أقشطتها العملاقة ثم يشغلونها، فتهدر الأصوات لتفترع بكارة الأذان الغضة، فننهمك في الحديث جميعاً دون ان يسمعنا أحد، نفرح بالصراخ والضجيج والفوضى التي لا يحاسبنا عليها أحد.
ثم نعود إلى البيت مبشرين باشتغال المطحنة، فتترك الأمهات أعمالهن وينهمكن في ربط البقج وتحميلها على أكتافنا لنحجز دوراً على مطحنة الشرائط.
البقج … وما أدراك ما البقج … هي لفيف من الملابس المستعملة كنا نسميها (خلاعية) آنذاك، كانوا يوزعونها علينا بعد حرب 1967 م كمساعدات للاجئين، وكان يتلقاها الجميع.
الغريب في أمر البقج أننا لم نستطيع أطلاقاً استصلاح أي قطعة منها، فهذا جاكيت عسكري عملاق قد يكون صاحبه شارك في حملة نابليون على عكا ، وهذا فستان فوق الركبة كانت أمي ( تفقع ) من الضحك حين تراه ، وتتخيل ان فتاة ما قد لبسته وخرجت إلى الشارع فارعة دارعة، كانت أمي تستفيد فقط من (الأزرار) وتخبئها في علبة حليب فارغة ، أما الملابس فترسلها إلى مطحنة الشرائط ، لتعود إلينا مفرومة ، فتحول إلى جوادل وفرشات ولحف ومخدات نتقي بها جنرال الشتاء القارص ، واقسم ان بعض هذه المنسوجات ما زالت تستخدم في بيتنا حتى الآن .
وداعاً مطحنة الشرايط.
وداعاً مطحنة الشرائط، فقد تمدن الناس وصاروا يستخدمون ( البوليستر ) وغيره من المواد المفرطة النعومة.
وداعاً مطحنة الشرايط فقد سَرقنَا الاستهلاك منك، وصرنا أنعم وأطرى وأكثر حساسية من الضجيج.
الضجيج في كل مكان.
الأصوات تنطلق من كل مكان.
ولا أسمع أحدا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى