أنْسَنَةُ المُطْلقِ في القرآن الكريم
أ. د. خليل عبد الرفوع
” من جماليات فن القول العربي ٤ ”
لم يكنِ القرآن حينما تنزل على العرب غريبا عن لغتهم، بل هو من رحيقها وشذاها، وهو إلى ذلك كتاب شمولي فكري إعجازي عَقَدِيٌّ بيد أن الجمال البياني كان مصدرَ جذب وإغراء للعرب لقراءته وتأمله ، فقد عرفوا الشعر هزجه ورجزه وسحره حتى فُتِنُوا به وزعموا أن الجنَّ هم من يوحون لأتباعهم الشعراءِ بالشعر في وادي عبقر، ( زُعِمَ أسطوريًّا أنه وادٍ تسكنه الجنُّ لتبرير مصدر إلهام الشعر) .
لقد ورد في القرآن انزياحاتٌ تصويريةٌ مثل : أنسنة الشيء أو تشييء الإنسان، والأنسنةُ تعني إعطاءَ الشيء غير العاقل من حيوان وغيره مشاعرَ الإنسان وصفاته تفكيرًا وإحساسا وحركة وكل ما فيه وبه، ولعل هذا ما يُسمّى الصورة الشعرية في النقد الأدبي ، وكان ذلك موجودًا في شعر ما قبل الإسلام، ولعل هذا أحدُ جماليات الشعر، فالدار تتكلم عند زهير بن أبي سلمى وعنترة، والرماح يخْتَطِفْنَ المحامي عند عبد يغوث الحارثي وغير ذلك كثير، وفي القرآن هناك أشياء مؤنسنة في الحياتين الدنيا والآخرة، وما جاء عن الآخرة سيكون حقيقةً بقدر إيماننا باليوم الآخر وما فيه من تغيرات كونية وإنسانية شاملة ، لكنها تثير الخيال بتصوير تأملي مدهش، كأنْ : تقول النارُ هل من مزيد. وسأضرب أمثلة على الأنسنة بثلاث كلمات وردت في سياقات مختلفة، وهي : عسعس، تنفس، سكت، وهي أفعال ماضية مُحرِكة متحركة بأفعالها المطلقة غير المقيدة ، ” والليلِ إذا عسْعَسَ، والصبحِ إذا تنفسَ” (التكوير ١٧،١٨)، لقد وردت الآيتان بعد الحديث عن التحولات الكونية يوم البعث، والعسُّ، هو الشرطي الذي يطوف بين الناس في الليل؛ فعسّ : فعل إنساني لكنه في الآية ورد مُضَاعَفًا، عسْ عَسَ، فتكرار الفعل يدل على تأكيده وقوته وثقله واستمرار حركته، فالليل يعسعسُ في الكون، أي يتحرك بثقل وقوة حاملا عتمته وظلامه الشديدين ومرخيا سدوله على الزمن كله، وفي تلك اللحظة تتجلى قدرة الله بجعل الصبح ينبلج متنفسا بالحياة بعد وطأة الليل وعسعسته وجثومه ، يتنفس الصبح كما يتنفس البشر بعد أن منع عنه الهواء!! فالليل والصبح لا يشبهان الإنسان بل هما مؤنسنان تماما، ومن مفارقةِ ثنائية التضاد بين الزمنينِ تستمر الحياة وتتكامل دورتها،كانت تلك أنسنة الزمنين ليشكلا عظمة كونية يقسم اللهُ بهما مؤكِّدًا : إنه لقولُ رسول كريم.
ومن المؤنسنات المطلقة في القرآن قوله تعالى ” ولما سكتَ عن موسى الغضبُ”، (الأعراف ١٥٤) فالغضب حالة جسدية صوتية حركية بشرية نراها، لكنه هنا إنسان يقول ويسكت، ومن قبلُ وُصِفَ موسى عليه السلام بأنه رجع غضبانَ أسِفا،”قال بئسما خلفتُموني من بعدي أعجلتم أمرَ ربكم وألقى الألواحَ وأخذَ برأسِ أخيه يجرُّهُ إليهِ”، (الأعراف١٥٠) وقد عرف ورأى أنّ بني إسرائيل اتخذوا العجل إلاهًا بعد أن جاءهم بمعجزات واقعية كثيرة رأوها من قبلُ ؛ فقد تمكن منه الغضب فقال ما قال وفعل ما فعل، وكان حينذاك موجِّهًا له ومسيطرا عليه، فقد كان الغضب هو الفاعلَ المتكلمَ في لحظات الرفض والثورة والساكتَ الهادئَ في لحظات التدبر والتجلي، أي أن له مشاعر الإنسان وتوتره وهدوءَه ، وتلك صورة تقاربُ للعقل العربي حالةَ موسى عليه السلام ولن يعادلها أي وصف لحالة الغضب والسكوت معًا حينما تُسْتَبدلُ عبادةُ الله بعبادة عجل صنعه السامري من حُلي بني إسرائيل، وأول فعل قام به موسى بعد أن سكت عنه الغضبُ، أنه أخذ ألواح التوراة بعد أن ألقاها؛ لأن فيها هدى ورحمة لمن هم لربهم يرهبون.
ومن الصور البيانيةالمؤنسنة الأخرى التي تعبر ضمن سياقها عن قوة في المعنى آياتٌ أخرُ وردت منسجمة مع سَنَنِ فن القول العربي : ” فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة “، يكاد البرقُ يَخْطَفُ أبصارَهم”،” واسألِ القريةَ التي كنا فيها، والعيرَ التي أقبلنا فيها “، ” إذْ حضرَ يعقوبَ الموتُ”،” حتى إذا أدركه الغرقُ” فتخطَفه الطيرُ “،” وترى الأرضَ هامدةً، فإذا أنزلنا عليها الماءَ اهتزتْ وربتْ”، ” ويذرونَ وراءهم يوما ثقيلا” ، ” ولما ذهبَ عن إبراهيمَ الرَّوعُ وجاءتْه البُشرى”، تلك بعض من الصور التي بانزياح أفعالها تصويرِيًّا أعطت مظهرا جماليا للقرآن يرتقي بالذائقة الأدبية إلى أسمى مداركِ التخيل والبيان، ولقد أنسنت تلك الأشياء المطلقة ليستطبعَ العقل البشري إدراكها عقليا كي تُبسطَ الصورةَ واقعا أمام خياله.