أنس الشريف: من ارتقاء مُعلّق إلى شهيد مُحقق

بسم الله الرحمن ا لرحيم

#أنس_الشريف: من ارتقاء مُعلّق إلى #شهيد مُحقق

دوسلدورف/أحمد سليمان العُمري

في ظلّ الحصار والدمار، كان أنس الشريف يعيش حالة استثنائية: شهيد مع وقف التنفيذ. تلك العبارة التي نطق بها قبل أيام قليلة من استشهاده تعبّر حصراً عن معاناة الإنسان الفلسطيني الغزّي، لا بل وعن فلسفة حياة في قطاع غزّة واختياراً أخلاقياً مهيباً.

مقالات ذات صلة

رفض أن يلوذ بالنجاة السهلة، ورفض مغادرة غزّة التي تُذبح أمام عينيه.

وكأنّ لسان حاله كان يقول:

«إذا رحلتُ، فاعلموا أني اخترت البقاء لأن نقل مأساة القطاع والكاميرا الآن هما سلاحي؛ لن أتخلّى عن حقي في أن أصرخ بالحقيقة حتى لو كلّفني ذلك روحي. ارووا شهادتي بالدم، واقرأوا غزّة في عيون أطفالها الجوعى، فهي القصّة التي لا يريدون للعالم أن يسمعها».

حيث الأطفال يُعدمون بصمت في بيوتهم، وحيث مجاعة تقتل بالمئات يومياً، وحيث الصراخ الإنساني لا يجد من يسمعه. ظلّ أنس يعمل على توثيق الواقع المرير بشجاعة، مدافعاً عن الحقيقة كأعلى درجات النضال، وهو يدرك أن العدوان الإسرائيلي لا يقتصر على القصف، بل يستهدف بالدرجة الأولى من ينقلون الفظاعات بحق الغزّيين والإبادة الإسرائيلية.

استشهد أنس في قصف غادر مع زميله محمد قريقع، تاركين خلفهما سيرة من المهنية والشجاعة والتضحية في وجه آلة الحرب.

دماء الصحفيين

منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في 7 أكتوبر 2023 وحتى ارتقاء فريق الجزيرة الإعلامي قبل يومين، الذي فقد المراسلين أنس الشريف ومحمد قريقع، بالإضافة إلى المصورين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل؛ بلغ عدد شهداء شبكة الجزيرة 11 صحفيا. أمّا إجمالي الصحفيين الفلسطينيين الذين ارتقوا في القطاع فقد تجاوز 238 شهيدا، جميعهم قضوا بنيران الاحتلال، مما يعكس حجم المخاطر التي يتعرّض لها الإعلاميون في سبيل كشف الإجرام الإسرائيلي للعالم، في ظروف تفضح نهجه في استهداف العاملين على نقل الحقيقة.

 ما كان هؤلاء الصحفيون مراسلين بالمعنى التقليدي، بل شهود عيان على المجازر، على أطفال يُقتل بعضهم أمام كاميراتهم، وعلى مشاهد التجويع التي أنهكت الضمائر العالمية. كانوا ينقلون صور الموت والدمار التي تحاول إسرائيل خنقها بالقتل، موثّقين لحالات تجويع الأطفال التي ترتقي بالعشرات يومياً، وللحياة التي تُقتلع من تحت أنف العالم.

تجار الحرب يريدون أن تُطوى هذه الشهادة، لكن دماء أنس وزملائه تقول إن الحقيقة ليست تقريراً أو مشهداً إخبارياً لأحداث اعتباطية عبثية، بل صرخة إنسانية تحتضر.

في هذا العدوان، دُمّرت مئات من منازل الصحفيين، وخسر كثيرون عائلاتهم، لكنهم استمروا في نقل الإبادة بالصواريخ والتجويع رغم كل ذلك. القتل المتكرر والتضييق على حرية الصحافة يؤكّدان سياسة ممنهجة تستهدف تفكيك قدرة الإعلام المحلي على تغطية الأحداث الدامية والعمل على احتلال غزّة وتهجير سكّانها بصمت، وحرمان العالم من معرفة حقائق الحكومة الإسرائيلية المجرمة، التي طالما سوّقت للاحتلال وسوّق له الغرب دور الضحية.

سياسة إسرائيلية ممنهجة لإسكات الصحافة

استهداف الصحفيين لم يكن فعلاً عشوائياً أو نتيجة خطأ في الرصد. بل هو جزء من استراتيجية إسرائيلية متكاملة لمنع وصول الصور إلى الرأي العالمي العام. فإسرائيل تمنع دخول الصحفيين الأجانب إلى القطاع، وتستهدف بعنف الصحفيين المحليين الذين يبقون هناك رغم الخطر، فتقتلهم، تهددهم، وتدمّر مقار عملهم. هذه السياسة ترمي إلى احتكار السردية الإسرائيلية، وتقديم روايتها التي تخدم مصالحها وحكومة نتنياهو وعصابته لإثخان القتل والإبادة الجماعية.

وفي قلب هذا العدوان والإبادة، كان أنس الشريف رمزاً للشجاعة، فقد رفض مغادرة غزّة رغم تحذيرات أصدقائه وتهديدات المخابرات الإسرائيلية الصريحة بتصفيته، لأن بقاءه كان مقاومة بحد ذاتها، وحكاية عن تمسّك الفلسطينيين بحقهم ونقل قصّتهم وظلمهم ومأساتهم بأصواتهم.

الصحفيون بين الموت والتوثيق

أنس الشريف لم يكن وحده. ففي الأشهر الأخيرة، استشهد مراسلو الجزيرة مثل حسام شبات، فاطمة حسونة، سامر أبو دقّة، وإسماعيل أبو حطب، وحمزة الدحدوح، وإسماعيل الغول، وأحمد اللوح وهم يوثّقون لحظة بلحظة معاناة سكّان غزّة. هؤلاء الصحفيون لم ينقلوا أخبار الحرب بهذا المعنى المجرّد، بل حملوا على عاتقهم سرد قصص الأطفال المجوّعين الذين ينهارون تحت وطأة الحصار، والنساء اللاتي فقدن عائلاتهن، والبيوت التي تحولت إلى رماد.

لم يكن نقلهم للمجازر مهنة بالمفهوم العام، بل رسالة ونضال، كما كتب أنس في مذكّراته بتصرّف يسير:

«عسى أن يكون الله شاهداً على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا، ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكناً، ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعّثرت أشلاؤهم على الجدران. أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود».

هذه الكلمات كانت شعارهم، فحتى بعد استشهادهم، بقيت كاميراتهم تشهد على جرائم لا يدفع كلفتها غير الدم الفلسطيني.

إن نقل هذه الصور من الإبادة هو ضرب من ضروب النضال والمقاومة، حيث يصبح الإعلام سلاحاً ضد القتل والتشويه، ومرآة تكشف الوجه الإجرامي القبيح لدولة الاحتلال. في كل صورة، في كل تقرير، كان الصحفي الفلسطيني يقول للعالم: هذه ليست عناوين إخبارية، هذه دماء عربية فلسطينية؛ هؤلاء أطفال فلسطين سرق الاحتلال الحياة منهم بدموية ووحشية.

نداء للضمير الدولي

كنت أجلس مساء كل يوم، أترقّب تغطية أنس الشريف ومحمد قريقع عن أخبار غزّة الموجعة، عن أطفال يئنون من الجوع، وعن أُسرٍ تحصي شهداءها، وفي ذلك اليوم وكالعادة، جلست بانتظار تغطيتهم، وإذا بي أسمع تغطية عن ارتقائهم، عن رحيلهم الذي أبكاني كما أبكى الملايين من «المطحونين». لم تكن تقاريرا إخبارية، بل وداع لوجوه صارت رموزاً للحق في زمن ظلمة الاستبداد.

رحلت الوجوه، كما رحل كثيرون غيرهم في غزّة؛ بعضهم كانوا يناشدوننا وهم لا يعلمون أننا الموتى، أننا الأرقام في إحصائيات الشعوب؛ لا نتقن غير الإطراء ولا نعرف من كرامتهم غير القصيد والماء والثريد.

نهاية

ما لم يتحرك العالم بجدية لحماية الصحفيين وضمان حقهم في العمل بحرية وأمان، ستظل غزّة مسرحاً لمجزرة إعلامية وإبادة بشرية غير منتهية، وستظل شهادات هؤلاء الأبطال الذين ارتقوا حاضرة كنداء مُوجع، في حين يبقى آخرون من الصحفيين الفلسطينيين في حالة «شهيد مع وقف التنفيذ»، ينتظرون العدالة الإلهية بالحياة والحرية.

الدماء التي توثّق الجرائم لا تجف، والكلمات التي كُتبت بدماء الشهداء والنضال أكثر وقعا من الرصاص.

Ahmad.omari11@yahoo.deFreundliche Grüße

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى