التنوع الثقافي والعولمة السياسية / د.رياض ياسين

التنوع الثقافي والعولمة السياسية

بعد انتهاء ما اصطلح عليه بعصر الحرب الباردة ،اي الفترة التي بدأت مع العقد الاخير من القرن العشرين كان ثمة حديث عن نظام عالمي جديد بالمعنى السياسي ابتداء يقوم على فكرة انتهاء التوازن بين معسكرين لطالما حكما السياسة الدولية لما يزيد على اربعة عقود تلت الحرب العالمية الثانية. والعولمة التي كانت نتاجا صارخا للنظام العالمي الجديد قامت بالمعنى السياسي على أسس نسخ فكرة التعددية القطبية وإحلال فكرة القطبية الاحادية في السياسة الدولية والتي بالضرورة عنوانها الامركة بمضمونها الحضاري الواسع بدليل طغيان النموذج الامريكي الرأسمالي والتحولات التي شهدتها اقتصادات الكثير من الدول خاصة ذات النظم الشمولية منها في أكثر من منطقة من العالم.فالعولمة الاقتصادية كما هو معلوم تقوم على أساس التنظيم الاقتصادي وفكرة التنمية المستدامة وإقامة التكتلات الاقتصادية ورفض القيود المفروضة على الحريات الاقتصادية مثل حركة مرور الافراد ورؤوس الاموال وانسياب التقانات وغيرها،والأمر مشابه في حال الحديث عن الثقافة والفنون والاداب التي بدأت تنساب بين المجتمعات عبر وسائل تتناسب وتطورات العام والتقانة خاصة بالنسبة لوسائل الاتصال.

هناك خطط عديدة لاستخدام وسائل التقانة والاتصال الحديثة بمرحلة ما بعد العولمة في مجال دعم المنتج الثقافي والمحافظة عليه بل وأكثر من ذلك الحديث عن الثقافة في إطار كونها صناعة تتجاوز المألوف،ومن هنا فعلى المجتمعات والحكومات أن تدرك في ظل العولمة اهمية الانفتاح على الثقافات الاخرى،إذ لم يعد بامكان الدول اغلاق حدودها مع التطور الهائل والمستمر، ومع توفر وسائل اتصال سريعة فان هناك فرصة نادرة سانحة للتعبير الثقافي بالتبادل والانتشار .

انطلاقاً من تتبع مفهوم السياسات الثقافية في سياق العولمة فإن هناك حرصا على تبني مفهوم جديد للسياسة الثقافية مختلف عن المفاهيم التقليدية، بحيث تقوم السياسة الثقافية على توسيع مفهوم الثقافة والعمل الثقافي والاخذ بعين الاعتبار ثقافة الاخر من خلال الانفتاح،والاهم على الصعيد المحلي للثقافة العمل على مأسسة العمل الثقافي واشراك الجميع في صياغة هوية الثقافة والتاكيد على دور الدولة ليس بوصفه دوراً احادياً بل اساسياً وتبين اهمية الثقافة في احداث التنمية الشاملة لدى الدولة.

مقالات ذات صلة

فالتنوع الثقافي في المشهد المحلي يتيح المجال للتركيز على أن هناك فئات كبيرة داخل المجتمعات مجهولة الدور والفعالية في العمل الثقافي مثل الطفل والمرأة والشباب،هذا ناهيك عن الجماعات المغايرة إثنيا ودينيا ومذهبيا،وقد يكون التنوع بهذا المعنى لاينسجم مع طروحات سياسية لمن يدعون بان لديهم مشاريع وطنية تقوم على فكرة فرض ثقافة أحادية مستنسخين رغبة بعض الدول الكبرى الراغبة في حظر الثقافات الاخرى للمجتمعات لاسيما تلك التي توصف بانها مازالت في طور النمو، وهنا نشير الى ان اتفاقية التنوع الثقافي التي أقرت من قبل اليونسكو في العام 2005 والتي استغرقت وقتا وجهدا كبيرين لولادتها لأن الولايات المتحدة الامريكية كانت تعارضها وبررت ذلك باكثر من حجة منها ما يتصل بانها كانت تشكل خطرا على حقوق الملكيات الفكرية للمجتمعات من جهة وستقيد اتفاقية التجارة الحرة من جهة ثانية.

ومن السمات الثقافية في إطار العولمة أهمية التأكيد على ما يمكن تسميته “الدبلوماسية الثقافية”، وذلك بأن تحرص الدول على مدّ جسور التعاون والتبادل مع سواها خاصة في المجالات الثقافية بما ينعكس ايجاباً على علاقتها في الميادين الاخرى مع هذه الدول،كذلك التأكيد على دور الدولة المحوري مع عدم اغفال دور المؤسسات العاملة في الحقل الثقافي لا سيما مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص بحيث تقدم الدول كل ما يضمن تسهيل الاستثمار في القطاع الثقافي من جانب القطاع الخاص من اعفاءات ضريبية وتسهيلات قانونية،وهذا يعني ان هناك دورا جديدا لهيئات الثقافة الرسمية من وزارات ومجالس يفترض أن تأخذ بعين النظر التطورات العالمية ودور الثقافة المحوري في عالم لا يعرف الانكفاء على الذات الثقافية المحلية.

التنوع الثقافي يفرض على الدول أن تعيد حساباتها من جديد في التفكير بالحصون الثقافية التي تحمي المجتمعات من الذوبان السهل في محيطات الثقافات السائدة والمؤثرة في العالم،فلم يعد هناك من يركن على ذاكرته التاريخية فحسب ظانا أن هذا الارث التاريخي سيكون حلا سحريا للخروج من كل المآزق التي قد يتعرض لها المجتمع جراء الطوفان الثقافي القادم من العالم الاكثر تأثيرا ،وأعيًن هنا الثقافة الاتية من اوربا الغربية والولايات المتحدة الامريكية التي باتت تنتشر قسرا نتيجة العولمة،فالمنتج الثقافي اكثر انسيابا من المنتجات الاخرى لأنه في كثير من الاحيان لايحتاج للمرور في أي نوع من الحدود.

هناك بعض الدول تنتهز فرصة وجود مثل هذه السمات العولمية فتوظفها لمشاريع فيها من الازدواجية والتناقض فمثلا مطالبة قادة”اسرائيل” أن يكون لهم كيان قومي محض في محيط مغاير لهم ثقافيا وحضاريا،والتناقض يأتي أن هذا الكيان يطرح لنفسه ذاتا ثقافية فيها من العنصرية مما يجعلها عدوانية في محتواها وتوجهاتها،ففكرة “يهودية اسرائيل” تعبر تماما عن ذلك،والغريب في الامر ان قادة اسرائيل يعملون على إقامة علاقات طبيعية مع دول الجوار أي ما يطلق عليه “التطبيع” فهم يفهمون التنوع بهذا المعنى على نحو يتيح لهم حرمان الاخرين في دولتهم أن يكون لهم ثقافتهم وشخصيتهم التاريخية فيقمعون الجماعات والاقليات ويحظرون عليهم فكرة خصوصيتهم الثقافية يالمقابل يفضلون أن يكون الاقليم المحيط بهم مغايرا لهم لكنه مفتت ومتشرذم ثقافيا وسياسيا حتى يسهل قبول شذوذهم فيه وتسيّدهم عليه.
rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى