
اسرار العقد الرابع
حين يقف المرء على مشارف الأربعين من العمر ، يشعر بنفسه هناك واقفا كشاهد على تلة أعلى ترتفع به عن باقي تلال العمر التي مضت مسرعة ، دون ان يفكر لحظة بأن يقف او يتمهل عند اي منها ، فالحياة ورذمها السريع لم تكن تحتمل الوقوف الا سويعات ليأخذ اليسير من الزاد الذي يعينه على الإستمرار في ذاك الطريق المتعارف عليه من الجميع ، مما سهل عملية القبول والمضي دون الإحساس بالحاجة للتوقف او السؤال …
لكن على مشارف الاربعين تبدأ الرحلة الحقيقية والمقصودة … وفي ذلك يكمن سر جمالها … !!
هذه الرحلة بالذات هي رحلة من نوع آخر فهي تختلف عن رحلات العمر التي سبقت ، رحلة تتفاوت في اتجاهاتها وبوصلتها ، تتمايز ادواتها وردود الفعل عليها ، ويتنوع الناس في استيعاب مستجداتها واكتشافاتها ، هي رحلة الإلهام الداخلي والنفسي للوصول الى الطمأنينة والسكينة كهدف نهائي لمسيرة لا بأس بها ، مسيرة طوت معها الكثير من سرعة الإندفاع ، والجهل المقنع والمغلف بالإعتداد بالنفس ، وطوت معها أنفاس متلاهثة من الشقاء والحاجة لتحقيق مكاسب مادية دنيوية لم تتعدى قيمتها سوى ان تكون مرطبات الرحلة التي تعين الفرد على الإحتمال والصبر في سبيل الهدف الأسمى …
في الرحلات التي مضت كنت تخرج من الداخل لترى وتستكشف ما يحيط بك فالفضول هو البوصلة التي تقودك ، حب المغامرة والمخاطرة وتجربة كل جديد هي ادوات بحثك ، ومعرفة ما وصل اليه غيرك كان هدفك ، نشوة الإكتشاف والتجربة نفسها كانت المتعة التي تسعى لتذوقها وإن أثبتت مرارتها على مر الأيام …
مرت السنوات واصبحت هذه الرحلات على جديدها اعتيادية لا بريق فيها يغريك ، واصبحت امتعتك التي حملتها عبرها اثقل على كاهلك ، فكان لزاما ان تتخفف مما يثقل عليك ومما تحمله دون فائدة اذ لم يكن سوى غبار واتربة عالقة بثياب السفر ..
وآن الأوان لرحلة واكتشاف من نوع آخر …
رحلة تعكس فيها الإتجاه لتعود بها إلى الداخل ، إلى الذات ، إلى نفسك …
رحلة تقبع قبل البدء فيها على رأس التلة العالية لبضع لحظات او اكثر ، لتستشرف من عليها ما مضى من حياتك وما تبقى منها ، تقف ومعك حكمة كل التجارب السابقة التي مررت بها ، تلك التي احببتها او كرهتها وتلك التي تريد نسيانها او تمنيت يوما عدم حدوثها …
منتصبا هناك صامتا ومفكرا ، حاملا كل امتعتك بغبارها واتربتها وأدرانها التي علقت بروحك ، تقف قاصدا تطهيرها واسترداد نقائها وفرز محتوياتها ، فالرحلة الجديدة لا تحتمل الوزن الزائد ولا تحتمل كل ما ليس له معنى …
في هذه الرحلة تتعرف على صديق جديد ، كان دوما اقرب اليك مما تظن وإن ضيعته طويلا في زحمة الحياة وضجيجها …
ترى بوضوح احلامه وما يسعى لتحقيقه ، تكتشف نقاط قوته وميزاته ، وتراعي مواطن ضعفه وعيوبه …
تصاحبه دون ان تقهره ، وتقومه دون ان تكسره ، ولا تمل سريعا من رفقته …
ترسم له دربا جليا يصل به الى ما يريد هو وليس ما يريد له الآخرون …
وتقفان سويا على تلك التلة المرتفعة مرة اخرى قبل الإنطلاق مجددا ، لتحددا مسار حياة جديدة فارقة ومختلفة ، لكما فيها الخيار والقرار ، تنتقيان بتمهل وروية أبعادها ومعانيها لتكون السند والذخيرة لأيام معدودات …
الآن واكثر من اي يوم مضى ترى ببصرك وبصيرتك أن …
اجمل ما في هذه الرحلة انك قائدها ، وانت المسافر على متنها ، وانت من يحدد وجهتها ومحطة وصولها ، ومواقيت مغادرتها وقدومها ، وكيفية مواجهة مطباتها ، لأنك الأقدر والأصلح لهذه المهمة ولا أحد غيرك يستطيع أن ياخذ مكانك مهما أحبك …