بريموس

بريموس / يوسف غيشان

البريموس، أو بابور الكاز، كان أكثر الأجهزة التكنولوجية تقدما في بيتنا الطيني، كان جهازا بالغ التعقيد تلاحقه دوما منظومات متعددة من الطقوس، طقوس عند (تعميره) بالكاز… طقوس عند فتح عينه بإبرة البابور … طقوس عند اشعاله، طقوس عند استعماله وإعادة تعبئته بالهواء المضغوط ودتشّه بالعطاية.  طقوس عند إرساله إلى (حنا زاده) لتصليحه وفتح عينه أو تغييرها، وعند لحم أرجله أو تبديل تغيير جلدة العطاية… طقوس عند استخدامه للطهي والقلي وفرك شعر الرأس فوقه للقيام بعمليات ابادة جماعية للقمل على طريقة الهولوكوست.
أما الطقس الأهم والأكبر فكان يبدأ فور إطفائه، إذ تدخل فورا في حالة من التحول المفاجئ في قيم الضغط على طبلة الأذن، ليتوقف الصوت الخارجي الرتيب ويحل محله الضجيج المريح داخل تلافيف الدماغ.
طبعا توفرت في الأسواق بوابير كانت تسمى (راس ساكت) أو الأخرس، وهو الذي يعمل بلا صوت، لكن المرحلة الغازيّة ذات العيون الثلاثة داهمتنا بغتة قبل ان نجرب ذلك الفيلسوف السويدي الجديد.نسيت ان أخبركم ان البابور كان مصنوعا من النحاس وقد استمد اسمه (بريموس)من اسم القرية السويدية التي اكتسحت أسواق العالم بهذا الاختراع العجيب.
أول إدمان في حياتي كان على ضجيج الصمت الذي يتركه توقف البريموس عن العمل فجأة، مما يترك الدماغ في حالة حيرة ويترك بعض الحواس أو المؤثرات تستمر في العمل لدقيقتين تحت تأثير القصور الذاتي.
قبل سنوات اهداني العزيز موسى حجازين بريموس صيني. تذكرت إدماني القديم، فحشوته بالكاز وأشعلته. اكتشفت أولا، ان البريموس (صيني أو مصري) الجديد اقل كفاءة ومصنوع من معادن رديئة، لعل النحاس ليس واحدا منها، وان كان يحمل ما يشبه اللون القديم. واكتشفت إني أعيش إدماني السابق على ضجيج الصمت، ولم اتركه لحظة …فقد صمت كل شيء من حولنا فجأة عام 1967وها نحن من ذلك والوقت نعيش بين صمتين وإشعالين لبريموس الأحداث التي تجري لنا ومعنا وبيننا.
الفرق إننا لا نملك البريموس… ولا نملك حق إشعاله أو إطفائه.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى