الخريطة / حسين محمود حشكي

الخريطة

صغار لا نعرف من الدنيا سوى لعبة أو مشاجرة يظهر كل منا من خلالها قوته، وبعضاً من الألعاب الصغيرة التي صممناها ، ووضعنا لها حدوداً وضوابط وبنوداً، ولاعبون يتبعون دستوراً لا يحيدون عنه ، وزعيماً للحارة ليس له من كارزما الزعامة سوى أنه يسير بنا من مكان لآخر بجرأة نفتقدها فنحسده عليها ، وقد يقودنا لسرقة طفولية من أحد البساتين القريبة لنلتقط منها بعض الثمار اليابسة ، أو ربما رحلة صيد إلى سهول قريبة نصطاد الجنادب أو بعض الفراشات ، وكنا نسير وراءه دون أن نناقشه
هكذا كنا وهكذا كانت طفولتنا،، جميلةً بريئةً بكل ما فيها من تفاهات وتهورات قد تصل أحياناً إلى حد المخاطرة دون أن يتأذى أحد ، وكثيرة هي الحوادث التي داهمتنا وكنا نواجهها ، لكنها سرعان ما تصبح ذكرى تضاف إلى مفكرة الذكريات ، ولاتنفتح ملفاتها طالما كانت تمس أشخاصا بسوء ممن مازال لهم حضور ،
كنا نجتمع في الحارة بعد انكسار الشمس ، وانهاء فروضنا المدرسيه خوفا من عقاب لايحمد عقباه ، نجتمع لنتفق على اللعبة التي سنلعبها في ذلك اليوم ، فإذا كانت لعبة الخريطة كما كنا نسميها فإننا ننقسم إلى فريقين ولكل فريق قائد يختار أفراد فريقه حسب قربهم وحظوتهم لديه حتى يتم اختيار كامل أعضاء الفريقين ويتبقى في النهاية أفراداً غير مرغوب بهم أو لا يملكون من المواصفات ما يغري قائد الفريق لضمه إليهم ، فيتم الاتفاق بين القائدين على توزيعهم عشوائيا، ثم تبدأ اللعبة
يقوم مجموعة اللاعبين غير المرغوب فيهم بتنظيف مساحة من الأرض من الحجارة ، ويرسم أحدهم دائرة كبيرة فيها ، ثم يتجه أحد الفريقين إلى وجهة لا نعلمها ، يجتازون الحارات والشوارع والأزقة ويحرصون على اتخاذ الطرق والازقة المتعرجه يمينا ويسارا واثناء سيرهم بين الازقة والحارات يهاجمهم بعض أبناء الحارات من هنا ومن هناك لا لشيء سوى استعراض قوة ، أو مناورة تدريبية ، وبعضهم يجربون قدرتهم على التصويب بالحجارة من بعيد ، وحارة اخرى لاتملك من وسائل الحروب سوى حرباً إعلامية فتسب وتشتم في محاولة لاستفزاز الطرف الآخر وكسرا للروتين أو تنفيساً عن حالة غضب مخبوءة، وتستمر مسيرة أفراد الفريق حتى يصلوا إلى مكان محدد فيقوم قائد الفريق بإرسال أحد الأفراد ليعود إلى الفريق الأول المتمركز حول الدائره ليرسم خريطة سيرهم فيها ، ويتحلق حوله أفراد الفريق الآخر وعليهم أن يعرفوا مكان وجود الفريق الأول دون أن يسألوا الراسم ، وعليه أن يلتزم الصمت ويرسم تلك الخطوط المتعرجة والملتوية التي توضح خط سير فريقه ، وعلى الآخرين حفظ الخريطة ورسمها في أذهانهم والانطلاق للبحث عنهم حتى يعثروا عليهم ، وقد يمرون بنفس التجارب التي مر بها أقرانهم من الفريق الأول من هجوم أو حجارة أو شتم حتى يصلوا إلى موقع الفريق وربما يضلون أو قد تغيب الشمس ليعلن الفريق عجزه عن معرفة مكانهم وقد يحالفه الحظ فيعود منتصرا
وتمر الأيام بحلوها ومرها ويكبر الطفل ويبقى حلمه بالبحث عن خريطة للوطن ، خريطة تعبر الأزقة وتمر من كوة الأيام التي مضت ، وتخترق ساعات الحاضر الذي يكتب كلما عادت الشمس من رحلتها عله يستطيع أن يحيك من خيوطها مركبا يتسع لكل من ركب البحر يبحث عن وطن ، أو مهاجر قطع الغابات وتصادق مع نمورها وأسودها لايبتغي اكثر من غطاء يقيه قر الليل وحر الهجير، أو غائب اقسم أن لا يعود لوطنه لكنه ظل يرسمه لوحة مكتوبة في قصيدة ، أو قصيدة مرسومة في لوحة
..امتد البحر واتسع ، لكنه ضاق بقارب للعائدين
شاسعة هي الصحراء وتمتد كوحش خرافي لا بدء له ولا منتهى لكنها ضاقت بالعاشقين الذين يرسمون سكونها قصائد
والليل الذي جمع النجم بكل أطيافه لم يستطع اهداء حائر نجمة يهتدي بها.
غاب العاشق وكان الرحيل طويلا فأرسل وصيته لصبية كانت يوما هي الدنيا في زقاق الحارة القديمة الدافئه حيث كان يغني لها من تحت الشرفات ،، ( تحية من أرض خضراء كالجنة التي يصفون لكنني لاأراها الا غصناً يابساً بلاجذور
أوصيك إن كان الرحيل طويلاً وتاهت بوصلتنا وعز اللقاء بيننا بأن لا تغني للغائبين رثاء ، بل اجعلي القصائد خبزا لكل الجياع ، نجوما للعاشقين الحيارى ، سحابة تدثر المفترشين الارض الملتحفين السماء ، غيمة تسقي العطاش … عندها سيرحل الصوت بعيدا في المدى ، يحمل الحروف دعاء والقصائد اكفاً ضارعة إلى المولى كي يعود الراحلون ليغزلوا للوطن خريطة بعباءة شتوية

…..
حسين محمود حشكي

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى