ثورة يناير : المواطن محمود المصري!

ثورة يناير : المواطن محمود المصري!
أيمن يوسف أبولبن

كانت «ثورة يناير» تجربة مفصليّة في حياة الشاب «محمود»، فلم يسبق له أن تحمّس لقضية ما، وشارك فيها بوجدانه وروحه وجسده، كما فعل طوال الأيام الثمانية والعشرين من عمر هذه الثورة، افترش فيها أرض ميدان التحرير والتَحفَ سماء القاهرة. في الحقيقة كانت هذه أول تجربة يخوضها عن قناعةٍ تامّة ودون توجيه السُلطة، او أحد أذرعتها، وهي أول مرة يجرؤ فيها على التمرّد على السُلطة «أية سُلطة» إذ لم يكن يجرؤ قبل ذلك أن يُعبّر عن رأيه أو عن اختلافه في الرأي، وكان يكتم سخطه وقهره في داخله، إلى أن أتت تلك اللحظة التي خرج فيها إلى ميدان التحرير مُعلناً عن رغبةٍ دفينة في أعماقه (الشعب يريد إسقاط النظام!).
بعد نجاح الثورة تنفّسَ محمودٌ الحريّة لأول مرة في حياته واستنشق هواء الوطنيّة كما لم يفعل من قبل، شَعَر بالانتماء إلى تلك الأرض التي احتضنته، وشعر بالألفة مع رفاقه على اختلاف طبقاتهم وانتماءاتهم، وأحسّ لأول مرة أنه ذو قيمة في الحياة! خرج إلى الميادين ووزّع الحلوى وأقسم أنه رأى في منامه الوطن العربي الكبير مُوحّداً على شاكلة الاتحاد الأوروبي؛ ينعم بالرفاهية والعيش المشترك، وقال لأصدقائه إن هذه المرحلة التاريخية الفارقة ستصبح مادة للتدريس في جامعات العالم أجمع.
تغيّر محمود، لم يعد ذلك الشخص المُحايد أو السلبي تجاه قضايا المجتمع، أصبح فاعلاً، مُرشداً ومُوجهاً لغيره، مُشاركاً حقيقياً في حفظ أمن الحي الذي يقطن فيه بعد غياب أجهزة الأمن، وقام بإطلاق عدة مُبادرات لتنظيف الميادين العامة، وضبط حركة المرور، ومساعدة المتضررين من الأحداث، وجمع التبرعات لأهالي الضحايا والمفقودين، تخليداً لذكرى الشهداء.
عندما جرت الانتخابات التشريعية بعد الثورة، دعا محمود جميع أصدقائه ومعارفه عبر كافة وسائل التواصل الاجتماعي للتصويت والمشاركة في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك فعل مع انطلاق الانتخابات الرئاسيّة، كان يدعوهم جميعاً بغض النظر عن توجهاتهم السياسية بالقول (لقد عشنا حياتنا تاركين مصيرنا في أيدي ثُلّة فاسدة وكانت حُجّتنا لا توجد في اليد حيلة، أما الآن فبيدنا المساهمة في بناء مستقبلنا).
عندما أدلى محمود بصوته في الانتخابات الرئاسية شعر بالفخر، صحيح أن المرشح المفضل لديه لم يصل للمرحلة النهائية ولكنه كان سعيداً للمشاركة في أول انتخابات حقيقية في البلاد، ولأنه تأكد من أن النظام الديمقراطي أصبح حقّاً من حقوق الشعب لا يراوده عنه أحد، وأن أي رئيس قادم سيخضع للمساءلة وسيغادر منصبه بقوة صندوق الانتخابات وبالوسائل الديمقراطية. قال محمود لمذيعةٍ تلفزيونية خارج مركز الاقتراع (أشعر بالفخر اليوم لأني ولأول مرة في حياتي أشعر أن صوتي له قيمة!).
ولكن حلم محمود أصبح أقل إشعاعاً بعد قرار المحكمة الدستورية بنقض البرلمان المصري، والعودة بالثورة خطوة إلى الوراء، وبدأت كرة الثلج بالتدحرج والتضخّم، أزمة اقتصادية، أزمات اجتماعية، تليها أزمات سياسية، عودة العسكر إلى الواجهة من جديد، والنتيجة انقلابٌ عسكري مدعوم من بعض القوى المدنية.
ما كان يقلق محمود أكثر من هذا كله، هو انقسام رفاقه على أنفسهم بين مؤيد للانقلاب ورافض له، أو محايد لم يعد يرَ فائدة من كل ما حصل أو ما سيحصل «مفيش فايدة!».
شعر محمود بالإحباط ورأى ان أحلامه تحولت إلى سراب وأن الثورة عادت لتأكل أبناءها وتفتك بهم، لقد ذهبت كل التضحيات هباءً وسقطت أحلامُ الثورة من علٍ!.
عاد محمود إلى الميادين ليُعبّر عن غضبه ورفضه لسياسة فرض الرأي بالقوة، نزل ليقول أنا لست إخوانيا ولكني مستعد لدفع حياتي ثمناً للدفاع عنهم، كان محمود على وشك تحقيق مقولته بالفعل ولكن من حسن حظه (أو لعله من سوئه!) اختارت رصاصة القنّاصة أن تستقر في صدر رفيق عمره الذي كان جسدهُ ملتصقا به كأنه يودّعه دون أن يدري. صعدت روح «سعيد» إلى بارئها ولكنها أخذت شيئاً من روح محمود معها؛ بعدها لم يعد محمود، ذاتُ الشخص!
أُعتقل محمود بعد أن زاد من حدّة اعتراضه وأصبح عقبة في طريق مسار «تصحيح الثورة» المزعوم، اتُّهم بالخيانة والتآمر مع جهات أجنبية، وتعرّض للتعذيب والإهانة؛ فقدَ احترامه لنفسه، وتهشّم كبرياؤه، وجعل يبرطم مع نفسه «أنا مش خاين!». لقد هبط به سجّانوه إلى الحضيض وتركوه هناك، وبعد ان تأكدوا من أنه لن «يتنفس حرّية»، أطلقوا سراحه مؤكدين له أن أعينهم ستتابعه أينما كان؛ لقد رأى فيهم صورة «الأخ الكبير» ورأى نفسهُ تتجسّد صورة «ونستون» في رواية (1984)!
انكفأ محمود على نفسه، شعر بعجلة التغيير الذي كان يُمنّي النفس بدفعها إلى الإمام وإذ بها تعود إلى الوراء، بوتيرةٍ مُتسارعة وبعزم أقوى من ذي قبل، كان النظامُ القديم يُعيد إنتاج نفسه من جديد، وما زاد اضطرابه أن الربيع العربي الذي كان هو نفسه جزءا فاعلا فيه قد تحوّل إلى كابوس في العالم العربي بأجمعه، بعد أن وقفت في وجهه الأنظمة الديكتاتورية بمساعدة «المُثبّطين والمُشكّكين» والطابور الخامس من الوصوليين الذين يرتعون في البلاد بفضل غياب دولة المؤسسات.
لم تقف مأساة محمود عند هذا الحد، فقد تنكّر له بعضُ أصدقائه ورفاقه القدامى، إما خوفاً من ارتباطهم به أو شكّاً في خيانته، لم يناقشهم ولم يعتب عليهم ولكنه أصيب بطعنة في الصميم، تلك كانت القشّة التي قصمت ظهره؛ حزم أمتعته وبقيّة مدخراته وتوجه إلى حاضرة البحر، وفي طريقه أوقفته دورية شرطة محلية، تفحّص الضابطُ أوراقه وجَحَرهُ مُرتاباً، انتبه محمود إلى أنه لم ينظر في المرآة منذ ما يقارب الشهرين!، اقترب من الضابط وهمس له مُطمئِناً « أنا مش إخواني!»، ببرود أشار له الضابط بيده للمرور!
وصل محمود إلى مكان لقائه بالسمسار المسؤول عن تهريبه إلى أوروبا، دفع له المبلغ المتفق عليه وقام بنقله إلى مكان انطلاق القارب، وفي الطريق سأله السمسارُ بفضول (ما الذي يدفع شاباً مثلك للهجرة من بلاده ؟!) صمت محمود بُرهةً مُحتاراً، كيف له أن يختزل مشوار حياته ببضع كلمات، وكيف له أن يصف حاله منذ أن كان مجرد رقم في سجلات الدولة، قبل أن يؤمن بحقّه في العيش بكرامة وحرية وعدالة، كيف له أن يصف الحالة الوجدانية التي عاشها متنقلاً فوق قمم الحرية مُستنشقاً هواءها، قبل أن يسقط إلى أدنى الحضيض! طالت حيرته وتلعثم بالكلمات، ثم ازدرد ريقه وقال بنبرةٍ خافتةٍ حزينة «أنا المواطن محمود المصري!».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى