هِيَ مَسْألَةُ وَقْتٍ فَقَطْ
ليس أننا نفهم ذلك من خلال مبشرات وإرهاصات من واقع أمة #الإسلام فقط، وإنما نفهم ذلك ونستنتجه من خلال زيادة الظلم وقوة وبطش الأعداء وضخامة إمكاناتهم، حيث كل هذا يشير إلى قرب تحقيق وعد الله سبحانه.
لقد تحدث الله سبحانه وقص علينا في قرآنه الذي أنزله على نبيه محمد ﷺ قصص كثير من الأمم التي ظلمت وتجاوزت في ظلمها ليكون هذا سببًا في أن يحق عليها ناموس الله وقانونه العادل في إهلاك الظالمين {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} آية 59 سورة الكهف. ويظن #الظالمون لجهلهم وغرورهم، أن قوتهم وجبروتهم ستمنعهم وستحول بينهم وبين أن يجري عليهم قدر الله وسنته الكونية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ*وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ*الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ*فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ*فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ*إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} آية 6-14 سورة الفجر. {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} آية 2 سورة الحشر.
إنه إذًا موعد جعله الله سبحانه لهلاك الظالمين لما يتجاوزوا حدوده {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} آية 59 سورة الكهف. فإذا كان هذا موعدًا للظالمين عامة فإنه كان لبني إسرائيل خاصة بعد مشوار الإفساد والعلو والظلم، {وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} آية 4 سورة الإسراء. لقد جاء وعد وموعد العقوبة والتأديب على هذا العلو والإفساد في المرة الأولى، ولكنهم سرعان ما عادوا إلى ما كانوا عليه بل وأكثر، فكان لزامًا عندها أن يأتي وعد وموعد العقوبة والتأديب القاسيين والدرس الذي لا ينسى {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} آية 7 سورة الإسراء. {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} آية 114 سورة الإسراء.
نعم قد تطول مدة هذا الوعد وقد تقصر وكل شيء عنده سبحانه بمقدار، وقد يحتاج الأمر لأكثر من جولة {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا}، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ}، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} حيث يمكن للظالم وأهل الباطل أن ينتصروا على أهل الحق في جولة أو جولات، وقد يستبطئ المؤمنون وأهل الحق النصر {حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه} آية 214 سورة البقرة. لكن هذا لا يعني أبدًا أن سنن الله تغيرت أو أنه قد نسي أولئك الظالمين أو أنه يجاملهم، وإنما هو الوعد والميعاد الذي لا نعلمه نحن {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} آية 98 سورة الكهف {وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} آية 6 سورة الروم. ولئن طالت الأيام أو قصرت، ومهما بلغ الظلم مبلغه، فإن يوم تأديب الظالم لآت ويوم عقوبته لا ريب فيه:
لئن كانت الأيام أعلت له يدًا يطول بها في ظلمه ويجاذب
فما من يد إلا يد الله فوقها ولا غالب إلا له الله غالب
فليس السؤال هل سينتصر الإسلام أم لا، وليس السؤال هل للحق جولة قادمة أم لا، ولكن السؤال كيف ومتى؟
نعم إن نصر الإسلام وإن جولة معاقبة الظالمين بيد الله ويد عباده نراها مثلما نرى فلق الصبح {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} آية 5 سورة الإسراء. {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} آية 2 سورة الحشر. ويقينًا وثقة بوعد الله وموعده وميعاده، فإن هذا سيكون قريبًا {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} آية 51 سورة الإسراء، وكل آت قريب ونحن إلى الفرج أقرب، فالمسألة مسألة وقت.
لا نامت أعين الجبناء
يقول المرحوم الشيخ محمد الغزالي في كتابه الرائع -تأملات في الدين والحياة: “الشجاعة قد تكلف صاحبها فقدان حياته، فهل الجبن يقي صاحبه شر الموت؟ كلا فالذين يموتون في ميادين الحياة وهم يولّون الأدبار أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون الأخطار. وللمجد ثمنه الغالي الذي يتطوع الإنسان بدفعه، ولكن الهوان لا يعفي صاحبه من ضريبة يدفعها وهو كاره حقير، ومن ثم فالأمة التي تضن ببنيها في ساحة الجهاد تفقدهم أيام السلم، والتي لا تقدم للحرية أبطالًا يُقتلون وهم سادة كرام تقدّم للعبودية رجالًا يُشنقون وهم سفلة لئام.
وهكذا من لم يُسهر نفسه للتعليم أيامًا، أسهره الجهل أعوامًا. ولو حسبنا ما فقده الشرق تحت وطأة الجهل والفقر والمرض، لوجدناه أضعاف ما فقده الغرب وهو يبحث عن العلم والغنى والصحة!! .
وما دام الشيء وضده يكلفان الكثير فلماذا نرضى بالحقير ولا نطمع بالعظيم؟ ألا ما أجمل قول الشاعر:
إذا ما كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
والذين يحسبون البذل في سبيل الله مغرمًا يستحق الرثاء، والموت في سبيل الله يستحق العزاء، هم قوم ليسوا من الدين في شيء، ولا من الدنيا في شيء، وحق على هؤلاء أن يُدفنوا وهم أحياء، وأن يرقدوا في مهاد الذل لا ليستريحوا ولكن لتستجاب فيهم دعوة خالد بن الوليد : “لا نامت أعين الجبناء”.
وأضاف الشيخ محمد الغزالي قائلًا: ما ساد المسلمون إلا يوم أن قهروا نوازع الخوف وعرفتهم ميادين الموت أبطالًا يردون الغمرات ويركبون الصعاب. وما طمع الطامعون فيهم إلا يوم أن أخلدوا إلى الأرض وأحبوا معيشة السلم، وكرهوا أن يدفعوا ضرائب الدم والمال وهي ضرائب لا بد منها لحماية الحق وصيانة الشرف، ولا بد منها لمنع الحرب وتأييد السلام إن كرهنا الحرب وأحببنا السلام.
إن كثيرًا من المسلمين يحبون أن يعيشوا معيشة الراحة والهدوء والاستكانة برغم ما يهدد بلادهم من أخطار وما يكتنف مستقبلهم من ظلمات، وحسبهم من الدنيا أن يبحثوا عن الطعام والكسوة، فإذا وجدوا من ذلك ما يسد المعدة ويواري السوأة، فقد وجدوا أصول الحياة واستغنوا عن فضولها، وتلك لعمري أحقر حياة وأذلها، وما يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها بل أمة كريمة على الله أورثها كتابه وكلفها أن تعمل به وأن تدعو الناس إليه”.
لطالما اعتبر العربي أن العيش من أجل الطعام والشراب والشهوات هو عيب ومنقصة وليس من فعل كرام الناس، وقد غضب ذلك العربي أشد الغضب لمّا هجاه الشاعر بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وفي نفس معاني كلمات المرحوم محمد الغزالي، فإنها كلمات المرحوم الشهيد سيد قطب لما قال: “بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة مفزعة مقلقة، تخاف من ظلها وتفزع من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة من نفوسهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون”.
وفي نفس المعاني قال المرحوم الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله: “إن الصراع بين العبودية والحرية صراع قديم في تاريخ الإنسانية، وفي سبيلها تدفع الشعوب طائعة راضية أكرم شهدائها وأنفس أموالها”.
أنا للحياة خلقت للأفق البعيد
لبشاشة الصبح التي تجري على خد الورود
حر ولا أرضى لنفسي الذل أو عيش العبيد
حرًا خلقت فكيف يرضى الحر قيدًا من حديد
لا تصمت عن قول الحق لأنهم لن يتركوك
ما أجملها مقولة المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله وهو يقول: “لا تصمت عن قول الحق، لأنك عندما تضع لجامًا في فمك سيضعون سرجًا على ظهرك”.
إنها كلمات تكتب بماء الذهب وتكاد تكون بنفس معنى ما قاله المرحومان محمد الغزالي وسيد قطب بأن للعيش بكرامة ثمنًا لا بد من دفعه، وإن ظنّ البعض أنهم بتوفير ذلك الثمن الذي يدفعونه فإنهم سيحتفظون بشيء له قيمة وهم لا يدركون أنهم يخسرون أغلى ما يملكون وهي حريتهم وكرامتهم.
إن أهل الباطل وإن اختلفت أسماؤهم ولافتاتهم، فإنهم يريدون من أهل الحق ترهيبًا أو ترغيبًا، أن يصمتوا عن قول الحق ومناصرة الحق حتى يخلو لهم الميدان ويستجيب بعض أهل الحق إما رغبة أو رهبة ويظنون أن في ذلك السلامة والنجاة، وما دروا أنه بمجرد أن استجابتهم لترهيبهم وترغيبهم وصمتهم عن قول الحق، فإنهم لن يكتفوا بذلك وإنما سيطالبونهم بثمن أغلى.
إنك بمجرد أن تصمت عن قول الحق ولا تقول للظالم يا ظالم ووضعت مختارًا لجامًا في فمك، فإن الخطوة القادمة تكون بعد أن فتحت شهيتهم، فإنهم سيركبون عليك “يضعون سرجًا على ظهرك” إنهم يستخدمونك مطية وعبدًا لتحقيق مصالحهم، وكل مشوار الذلّ والاستعباد هذا قد بدأ بمجرد أنك صمتّ عن قول الحق فلا تصمت عن قول الحق.
وإذا كان مالك بن نبي قد قال ذلك ناصحًا لا تصمت عن قول الحق، فإن سيد قطب رحمه الله قد قال لك ناصحًا إنهم لن يتركوك حتى لو صمتّ عن قول الحق فقال: “لن يتركوك حتى لو اعتزلت في بيتك وأغلقت بابك، فطالما نور الحق ينفذ ويشع من شباك بيتك، فأنت تهديد يجب أن يزول ونور يجب أن ينطفئ”.
فابق على ما أنت عليه، اصبر وصابر ورابط واعتصم بحبل عقيدتك حتى لا ينالوا منك، ولا تُهَز فيك شعرة. وكيف ستُهز منك شعرة وأنت الذي تهز جذع العقيدة:
سأهز جذع عقيدتي لأحوز من رطب الكرامة للمدى عنقودا
لا لن يهد الظلم أوج عقيدتي ما دمت أملك في الصلاة سجودا
سيكشف الله همّنا
لأننا على يقين بأن المستقبل للإسلام، وأن الجولة والصولة والدولة هي للإسلام بإذن الله، وأن الله سيحقق وعده وموعده وميعاده فيجب أن نعيش في هذه الدنيا أعزة كرماء. ونعلم أن للعزة مهرًا وأن للكرامة ثمنًا هو أقل من ثمن الذل والعبودية.
ولأننا على يقين بأن ما تمر به الأمة إنما هو تمحيص وغربلة “ليميز الله الخبيث من الطيب” لذلك فإنه لا يراودنا أدنى شك في أننا نعيش مرحلة المخاض التي تسبق الميلاد، والعتمة التي تسبق الصبح والكرب الذي يسبق الفرج.
إن الذي ردّ موسى بعد غيبته وردّ يوسف بعد السجن والجبّ
لسوف يكشف عنا ما ألمَّ بنا من الهموم ويجلو داجي الخطب
إنه الله سبحانه الذي ردّ موسى إلى أمه بعد إذ ألقته في اليم وكاد قلبها ينخلع حزنًا وفزعًا {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} آية 40 سورة طه. وإنه الله سبحانه الذي ردّ يوسف إلى أبيه يعقوب بعد غيبة الجب وغيبة السجن وغيبة الغربة وقد فقد بصره من شدة البكاء {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} آية 84 سورة يوسف. فما أن ردّ الله إليه يوسف حتى ردّ إليه بصره {فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَىٰهُ عَلَىٰ وَجْهِهِۦ فَٱرْتَدَّ بَصِيرًا} آية 96 سورة يوسف.
فوالله إن الله الذي ردّ يوسف وردّ موسى وكشف عنهما الغمة، سيردّ إلينا ديننا وعزنا ومجدنا، وسيكشف عنا ما نحن فيه ويحول ذلنا عزًا وضعفنا قوة وشتاتنا وحدة، وسيحول غربتنا ويتمنا دولة، فلا تجزعوا فهي ليست إلا مسألة وقت، وإنه لقريب وكل آت قريب.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .